Author

صفقة جدلية .. قسوة الرأسمالية

|

أثارت الصفقة الاستحواذية التي أعلنتها شركة مايكروسوفت الأمريكية كثيرا من الجدل والنقاش حول ماهيتها الاستثمارية وأهدافها التجارية والهدف من طرحها بهذه الصيغة، التي وصفت بأنها محيرة وأثارت دهشة المتخصصين.
الجميع يعلم أن شركة مايكروسوفت تعد من الشركات الأشهر في العالم التي تعمل في مجال البرمجيات وخدمات الكمبيوتر، وأعلنت أنها ستشتري شركة "أكتيفيجن بليزارد" في صفقة بقيمة 68.7 مليار دولار، وكأكبر عملية استحواذ لـ"مايكروسوفت" على الإطلاق، حيث ستدفع 95 دولارا للسهم الواحد "نقدا" بعلاوة 45 في المائة عن إغلاق سهم "أكتيفيجن" يوم 14 كانون الثاني (يناير) 2022، وبهذه الصفقة سيتم دمج اثنين من أكبر القوى الاقتصادية في قطاع ألعاب الفيديو على مستوى العالم، فـ"مايكروسوفت" التي تنتج وحدة التحكم Xbox وتملك عددا من استوديوهات تصميم الألعاب بينما تعد "أكتيفيجن" واحدة من أكبر مبرمجات ألعاب الفيديو الأمريكية على الإطلاق، وتشتهر بألعاب مثل "كاندي كراش" و"كول أوف ديوتي" و"وورلد أوف ووركرافت" و"أوفرووتش"، وتخطط شركة مايكروسوفت من هذا الاستحواذ لأن يصبح لديها 30 استوديو داخليا لتطوير الألعاب، وإطلاق جميع ألعاب "أكتيفيجن" في منصة Game Pass، ما يتيح اللعب بعشرات ألعاب الفيديو، ومن المتوقع أن يتم إغلاق عملية الاستحواذ في 2023، وفقا لما ذكرته "مايكروسوفت".
وعلى هذه الخلفية الشرائية للصفقة يأتي هذا الاستحواذ الضخم في وقت حققت فيه أسواق الألعاب العالمية إيرادات إجمالية بلغت 180.3 مليار دولار في 2021، ومن المتوقع أن يدر عائدات بقيمة 218.8 مليار دولار بحلول 2024. وإزاء هذا الوضع استقبل العالم إعلان هذه الصفقة الاقتصادية الضخمة بمواقف مختلفة وآراء ثورية من جهات رسمية ذات اختصاص، مثل مدير عام البنك الدولي، فبينما سجل سعر سهم "أكتيفيجن" ارتفاعا كبيرا بعد هذا الإعلان، تجاوز 35 في المائة ليبلغ نحو 88،45 دولار، تراجعت في المقابل أسهم شركة سوني اليابانية العملاقة للتكنولوجيا في تعاملات طوكيو وأغلقت على انخفاض 12.8 في المائة في طوكيو، ما أدى إلى تراجع مؤشر "نيكاي 225" 2.8 في المائة، وفي مقابل ذلك عدت صناديق التحوط التي تحقق عوائد مضاربة على عمليات استحواذ غير مستقرة هذه الصفقة بمنزلة هدية، لأنها ستتطلب موافقة مؤسسات مكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة إضافة إلى الاتحاد الأوروبي والصين، وفي وقت ترى فيه إدارة الرئيس جو بايدن أن عمليات الاندماج الكبرى من هذا النوع تتسبب في زيادة الأسعار على المستهلكين وتغذي التضخم، ولهذا القلق فإن أسهم "أكتيفيجن" لم تزل تتداول عند مستوى 88 دولارا وهو أقل من سعر الصفقة البالغ 95 دولارا للسهم، ما يعكس مخاوف من أن مؤسسات مكافحة الاحتكار والمنظمين قد يسقطون هذا الاندماج.
ومع ردود الفعل المتباينة تجاه هذه الصفقة الجدلية للنقاش، فإن النقد الأشد عليها قد جاء من مكان بعيد عن الأسواق المالية وعن مؤسسات مكافحة الاحتكار، فقد جاء الانتقاد أولا من رئيس البنك الدولي، حيث يرى أنها تمثل قرارا استثماريا مشكوكا في صحته ومن خلفه أهداف غير معلنة، ليس من ناحية الربح والخسارة، ولا من ناحية البنى الاقتصادية للقرار واتجاهات الأسواق بل من ناحية سلوكية وبنية اجتماعية والمنهجية التجارية، فهذه الصفقة التي تقترب من 70 مليار دولار، تأتي في وقت تعاني فيه الدول الفقيرة مشكلات إعادة هيكلة ديونها ومكافحة جائحة كوفيد - 19 والحد من الفقر، وفي وقت كان من المفترض فيه توجيه مزيد من رؤوس الأموال إلى الدول الفقيرة.
ولا شك أن هذا النقد يجد صداه من الناحية الأخلاقية وأيضا بنظرة إنسانية بالنسبة إلى الشعوب الفقيرة التي تعاني قسوة الحياة المعيشية اليومية، وتواجه الكفاف وصعوبة الحصول على الأكل والشرب والعلاج والدواء، فالنمو القوي في سوق الألعاب الإلكترونية والتحولات التي شهدتها منصاتها عموما يأتيان نتيجة لما طبقته الدول الكبرى من إجراءات احترازية وتعطيل للأعمال وتوقف سلاسل الإمداد، ما أثر في الجانب الآخر من العالم الذي يعاني ويلات الفقر وقلة فرص العمل وارتفاع معدلات البطالة، وإذا كانت هذه الجائحة التي تسببت في كل هذه الطفرة في سوق الألعاب الإلكترونية، فإنه في الوقت نفسه كانت تتسبب في الألم للعالم الأكثر فقرا، وبدلا من توجيه الأموال لتخفيف الأعباء عن هذه الدول ومشاركتها الأرباح لتخفيف الديون تسعى الشركات الكبرى وأسواق المال بعيدا عن ذلك.
فهذا المبلغ الضخم للصفقة، وعلى حد تعبير رئيس البنك الدولي، يتضاءل أمامه مبلغ 23.5 مليار دولار من المساهمات النقدية التي اتفقت عليها في كانون الأول (ديسمبر) الدول الغنية المانحة للمؤسسة الدولية للتنمية، وهي ذراع البنك الدولي لمساعدة أشد دول العالم فقرا، أي ما يعادل نحو ثمانية مليارات دولار سنويا على ثلاثة أعوام.
ولا شك أن مثل النقد اللاذع الذي صدر من مدير عام البنك الدولي والتساؤل عن معنى الاستثمار هنا يأتي في محله تماما، لأنه جاء من جهة متخصصة تفهم في الاستثمارات وفي مكافحة الفقر والإشراف على المشاريع التنموية التي تساعد الدول الفقيرة على تحسين وضعها المعيشي والاجتماعي، خاصة أن الدول الأشد فقرا تعاني ضعف الدعم الموجه إليها بسبب السياسات النقدية المتساهلة على غير العادة في الدول المتقدمة التي قادت الشركات العالمية الكبرى من أمثال "مايكروسفت" للوصول السهل إلى رؤوس الأموال الضخمة العالقة في أصول احتياطيات البنوك المركزية، التي تستخدم لدعم مشتريات السندات طويلة الأجل، فهل هذا أفضل تخصيص لرأس المال؟ كما يتساءل رئيس البنك الدولي.
إن هذا يعد سؤالا عاصفا ويدور حول المسألة الأكثر تعقيدا في المبادئ الاقتصادية الليبرالية، وهي اللامساواة. ففي وقت تتراجع فيه مداخيل 99 في المائة من البشرية، تتضاعف ثروات العشرة الأكثر ثراء في العالم منذ بداية جائحة كوفيد - 19، حيث تصل الثروات المتراكمة لمجموع أصحاب المليارات منذ بداية الجائحة إلى أعلى مستوياتها عند 13.8 تريليون دولار أي أكبر ارتفاع بزيادة خمسة تريليونات دولار وهي أعلى ذروة منذ بدء تدوين الإحصاءات، بحسب تقرير نشرته أخيرا منظمة أوكسفام، التي تناضل ضد اللامساواة حول العالم. ففي تقرير عنوانه "اللامساواة تقتل" تتهم فيه المنظمة بأن اللامساواة تقتل شخصا واحدا كل أربع ثوان.
إذن هي مسألة تستحق الوقوف أمامها أكثر من مسائل الاحتباس الحراري وقضايا المناخ، فقد ذكرت "أوكسفام" أنه من المتوقع أن أكثر من 160 مليون شخص قد دفعوا إلى الدخول في الفقر، وترى المنظمة أن هذا ليس وليد المصادفة، لكنه بالعنف الاقتصادي الذي يرتكب عند اتخاذ خيارات من أجل الأشخاص الأكثر ثراء ونفوذا، ولو قاد ذلك إلى ضرر مباشر للفئات الأشد فقرا.

إنشرها