Author

العالم السيبراني والتعليم .. حقائق وأفكار

|

يشهد العالم عبر التقدم العلمي التقني، وبالذات في المجال الرقمي وموضوعات الإنترنت والذكاء الاصطناعي، أي: في المجال السيبراني المتنامي، قوى متجددة تأخذ طريقها نحو تغيير طبيعة حياة الإنسان. ولعل الحقيقة عبر العصور تشير إلى أن أي تقدم علمي متميز، وما يفرزه من عطاء تقني متجدد، يسبق استيعاب الإنسان لأبعاد أثره في حياته، وتوجهه نحو العمل على الاستفادة منه. وهذه هي الحال مع التقدم التقني للعالم السيبراني، وتأخر استجابة الإنسان لمعطياته، وسعيه إلى الاستفادة منها. لكن فيروس كورونا الخبيث، وبمنطق الحاجة سرع استجابة الإنسان للعالم السيبراني، وعمق استيعابه لفوائده، وعزز سعيه إلى الاستفادة منه.
غاية هذا المقال هي طرح أفكار بشأن الاستفادة من معطيات العالم السيبراني في إتاحة فرص لتأهيل الشباب بدرجات جامعية وتعليم متواصل، على نطاق واسع، بما يؤدي إلى فوائد تعود بالنفع على الشباب كأفراد، وعلى تنمية المجتمع من حولهم، اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا. وتستند هذه الأفكار إلى ما يجري جزئيا على أرض الواقع، وطموحات مستقبلية قابلة للتحقيق، وبعيدة عن الطوباوية الحالمة. وتمهيدا لطرح هذه الأفكار سنبدأ ببيان بعض الحقائق والغاية من ذلك هي توضيح الترابط بين الأفكار المطروحة وهذه الحقائق.
تقول الحقائق إن الفضاء السيبراني يسمح بالتعليم عن بعد بكفاءة عالية في الموضوعات النظرية ويسهم في التعليم المدمج Blended، الذي يؤدى جزئيا عن بعد، وجزئيا عبر الحضور المباشر، وينفذ من أجل الموضوعات التي تحتوي على جانب نظري، وآخر عمليا. ويسمح ذلك بتوسيع دائرة المستفيدين من التعليم، ويجعل التعليم أكثر كفاءة، حيث يحد من تكاليفه. وقد طرح هذا الأمر في أكثر من مؤتمر، قبل كورونا، لعل أبرزها مؤتمر قادة التعليم العالي الذي عقد في ولاية تكساس في آذار (مارس) عام 2014، بحضور شخصيات سياسية واقتصادية وتعليمية، حيث نوقش موضوع استخدام الفضاء السيبراني للتوسع في التعليم العالي، وجرى طرح دور الجامعات الأمريكية في استقطاب مزيد من الطلاب حول العالم، دون الحاجة إلى حضورهم الشخصي الدائم. وحاز ذلك على اهتمام واسع النطاق، أدى إلى زيادة عرض المقررات على الإنترنت من قبل جامعات متقدمة.
في إطار الحقائق، لا بد من ذكر حاجة سوق العمل إلى مختصين مؤهلين في أكثر من مجال، إضافة إلى المختصين التقليديين في مجال واحد. فمندوب مبيعات الأدوية على سبيل المثال يحتاج إلى تأهيل جزئي في الصيدلة من جهة، يضاف إليه تأهيل جزئي آخر في التسويق من جهة أخرى فضلا عن حالات أخرى كثيرة تتطلب تأهيلا موزعا على عدة مجالات. وبالفعل يعطي كثير من الجامعات العالمية الحرية لطلابها في تسجيل مقررات في أكثر من تخصص، للخروج بتخصص مختلط يناسب متطلبات سوق العمل. ويعود البدء بهذا الأمر، إلى حقبة السبعينيات من القرن الماضي، أي: إلى أكثر من أربعة عقود مضت، وقد كان لبعض الجامعات البريطانية دور مهم في هذا المجال.
ومن الحقائق المهمة أيضا طموحات من فاتهم قطار التعليم العالي في الوقت المناسب، بسبب ظروف خاصة بهم، ويرغبون في اللحاق به، دون التخلي عن الوظائف التي يقومون بها. ويضاف إلى ذلك، طموحات من نالوا درجات في التعليم الفني والتدريب المهني لا ترقى إلى مستوى الدرجة الجامعية، ويودون، ولو لأسباب اجتماعية، فضلا عن الأسباب المعرفية، أن تتاح لهم فرص الحصول على هذه الدرجة، ولو في إطار تخصص مختلط، كما أسلفنا، على أن يتم ذلك دون إهمال المستوى التعليمي الذي وصولوا إليه، وغالبا ما يعادل نصف طريق الرحلة إلى الدرجة الجامعية، وربما أكثر.
تأخذ الأفكار المطروحة فيما يلي الحقائق الرئيسة، سابقة الذكر، في الحسبان. وتستهدف توفير فرص التعليم العالي، وإتاحة الدرجة الجامعية لجميع أبناء المجتمع، بما يشمل الدرجات الجامعية التقليدية في تخصص محدد، والدرجات في تخصصات مختلطة تناسب سوق العمل. وترى الوسيلة إلى ذلك في التعليم المدمج، وذلك في إطار وسيلتين تنظيميتين هما الهيكلة والشراكة موضحتين في التالي.
تقضي الهيكلة بوضع مقررات التعليم العالي، سواء في الجامعات، أو كليات التعليم الفني والتدريب المهني، في إطار مجموعات مختصة. ومثال ذلك أن تكون هناك مجموعة من المقررات للأسس، ومجموعات من المقررات للمستويات المتوسطة، وأخرى للمستويات المتقدمة في المجالات المختلفة الإنسانية، والعلمية، والتقنية، والطبية، إضافة إلى مجموعات لمقررات، تختص بالتعليم المتواصل، غايتها متابعة التقدم المعرفي في المجالات المختلفة، ويكون بين المجموعات تنظيم يحدد متطلبات التسجيل في كل منها. وعلى أساس هذه الهيكلة يتم تحديد متطلبات الدرجة الجامعية على أن تكون ثماني أو عشر مجموعات، أو أكثر أو أقل تبعا لما يتفق عليه في تنظيم المجموعات. بذلك يستطيع كل طالب اختيار تخصصه في إطار مجموعات تعطيه تخصصا واحدا أو مختلطا، كما يستطيع متابعة المستجدات عبر مقررات التعليم المستمر.
وننتقل إلى فكرة الشراكة التي تتطلع إلى توافق جميع الجامعات ومؤسسات التعليم العالي على الهيكلة ومجموعات المقررات المناسبة، حيث يستطيع الطالب دراسة المجموعات التي يختارها في أكثر من جامعة أو مؤسسة للتعليم العالي. وقد تأتي هذه الشراكة على المستويين الوطني، أو الدولي. ويسمح هذا الأمر لكل جامعة أو مؤسسة بالتركيز على مجموعات محددة، يتفق عليها، ما يسهم في الحد من نفقات هذه المؤسسات دون التنازل عن مستويات المخرجات. في مثل هذه الحالة تستطيع الجامعات البحثية التركيز على مجموعات المقررات المتقدمة والتعليم المستمر، وتستطيع الجامعات والكليات التعليمية التركيز على مجموعات المقررات الأساسية، والمتوسطة.
هذه أفكار للمناقشة، يرجى أن تخضع للفكر النقدي، وآفاق الإبداع والابتكار في مستقبل التعليم العالي، وذلك في إطار خصائص العقلية النامية المستعدة للتفكير في المستجدات، أو بالأحرى خارج الصندوق المعتاد. قد تجد هذه الأفكار من ينتقدها، أو ربما يرفضها، وقد تجد من يطورها نحو الأفضل، إنها اجتهاد في قضايا المستقبل مطروح أمام الجميع.

إنشرها