Author

التضخم بين الحقائق والأوهام

|
كبير الاقتصاديين في وزارة المالية سابقا
يمر العالم بحالة تضخم ملموسة. والكلمة تضخم ترجمة للكلمة inflation، وهو الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار، أو بعبارة مكافئة: الانخفاض المستمر في قيمة النقود. ولتقريب فهم المعنى على البعض لنا أن نقول إن التضخم نتج من فلوس كثيرة تطارد سلعا قليلة. ذلك أن موارد الدنيا ليست مفتوحة بل لها حد. كيف طاردت؟ وإلى متى؟ الخلافات كثيرة بين أهل الاختصاص.
يخلط كثير من الناس بين ثلاثة: معنى التضخم، والأسباب المحتملة في تفسير نشأته، ومظاهر التضخم التي نراها. قلة تقول كلاما يدل على أنها تفهم التضخم على حقيقته.
لنأخذ العبارات التالية التي نسمعها أو نقرأها كثيرا:
1. ارتفاع الإيجارات (أو أسعار كذا) سبب التضخم أو من أكبر أسبابه.
2. زيادة السكان سبب من أسباب التضخم.
3. لا علاقة بين الغلاء والازدهار، لأنه الغلاء عالمي وكثير من الدول غير مزدهرة.
4. ارتفاع أسعار النفط سبب التضخم.
5. لا تأثير لزيادة الأجور والرواتب في التضخم.
6. مصدر التضخم في الأعوام الأخيرة جشع التجار.
العبارة الأولى تحتاج إلى تفصيل. مبدئيا العبارة تعلل الشيء بنفسه أو بجزء منه، وكأنها تقول الغلاء سبب الغلاء! ارتفاع الإيجارات (أو أسعار المواد الغذائية، أو ... إلخ) هو جزء من مكونات التضخم. ولكن لنا أن نقول إن ارتفاع الإيجارات وسيط لانتقال التضخم، أي أن هناك ما تسبب في زيادة الإيجارات، وزيادة الإيجارات بدورها زادت من تكلفة أسعار وخدمات كثيرة، ورفع سعر التكلفة رفع أسعار تلك السلع والخدمات وهكذا نعيش في حلقة أسباب مترابطة. ولكن بداية الحلقة ليس الإيجارات.
بعض الناس ستعزو أصل ارتفاع الإيجارات إلى جشع المؤجرين. هذا تبسيط مخل، وكأنه يفترض أن الجشع شيء جديد. حب الناس للمال منصوص عليه في القرآن الكريم. هو يجري في عروق البشر مجرى الدم منذ أن خلقوا، فما الذي استجد، وهيأ الفرصة للمؤجر (أو التاجر أو مالك السلعة) أن يرفع الإيجار (أو أسعار الأراضي أو غيرها) الآن وليس سابقا؟ هل كانوا زهادا من قبل؟ طبعا لا وألف لا. ولكن تأملوا في تعريف التضخم لتسهيل معرفة الجواب. ولا ننسى أن الأمر نسبي، مثلا أسعار السلع والخدمات بما في ذلك الأراضي أو الإيجارات (أو ... إلخ) الآن أعلى كثيرا مما كان قبل 20 عاما مثلا، وهي قبل 20 عاما أعلى كثيرا بل بعدة مرات مما كان قبل 50 عاما وهكذا. مثلا، ثمن قطعة الأرض السكنية 500 م2 في حي الروضة شرق الرياض بضعة آلاف ريال قبل إنشاء صندوق التنمية العقارية، أي قبل 50 عاما تقريبا.
العبارة الثانية غير دقيقة لأن تزايد السكان لا يعني بالضرورة حصول غلاء، وإلا لكانت أكثر الدول ازدحاما هي أكثرها غلاء. قد يزيد عدد السكان دون أن ترتفع الدخول، تماما مثل أن يزيد عدد أفراد الأسرة دون أن يزيد دخلها ريالا واحدا، والنتيجة أن دخل الفرد انخفض، أما المستوى العام للأسعار فيبقى على حاله.
قد تتسبب زيادة السكان في تغيير الأسعار النسبية. مثلا، إذا بقي الدخل على حاله، ولكن زيادة السكان تعني في الأغلب أن الطلب على الإسكان يزيد، وتزيد الإيجارات، ولكن ليس المستوى العام للأسعار (أي لا يكون هناك تضخم)، وإنما إعادة توزيع لموارد الناس بين أوجه الإنفاق، فيزيد ما ينفق على السكن، مقابل خفض الإنفاق على غيره.
العبارة الثالثة غير دقيقة، وفيها تضليل. لو قلنا هناك غلاء في دول كالصين، على سبيل المثال، فالسؤال لماذا حدث الغلاء في تلك الدولة؟
سيقال الازدهار الاقتصادي في الصين جر إلى حصول تضخم فيهما. السؤال التالي: هل علاقة الازدهار الاقتصادي بالتضخم مخصوصة فقط بدول دون دول؟ طبعا لا.
العبارة الرابعة التي ترجع التضخم إلى ارتفاع أسعار النفط تشبه العبارة الأولى، ومن ثم يمكن تطبيق الشرح نفسه. وبعبارة أخرى، تتجاهل العبارة سؤالا مهما وهو لماذا ارتفعت أسعار النفط أصلا؟
وأما العبارة التالية القائلة إنه لا تأثير لزيادة الأجور والرواتب في التضخم فعبارة مجملة غير دقيقة. قد تؤثر وقد لا تؤثر، وقد لا يكون الجواب مؤكدا. الأمر أكثر صعوبة مما يتبادر إلى أذهان الكثيرين. ولكن في حالة أن الدخل زاد زيادة كبيرة، قل مثلا بنسبة 30 في المائة، وتحول هذا الدخل إلى طلب أي أنفق هذا الدخل، وبقي المعروض من السلع والخدمات دون زيادة أو كانت الزيادة بسيطة نسبيا، فإن ارتفاع الأسعار أمر حتمي. وإلا فإنه سيتبادر إلى الذهن سؤال منطقي: أين ذهبت أو تذهب الزيادة في الإنفاق رغم قلة المعروض؟ واقعيا ليس من الضروري أن ترتفع الأسعار بنسبة ارتفاع الدخل نفسها، لوجود اعتبارات كثيرة. ولو كان الأمر كذلك لما كانت هناك أي فائدة من تزايد مستوى الأجور في الدول، ولتساوت الدول في مستويات المعيشة. ولذا لا يكفي النقاش النظري وحده للتعرف على التأثير، بل لا بد من أن يدعم بتطبيق يستخدم أدوات الاقتصاد الرياضي والقياسي.
وأخيرا يخلط بعض الناس بين التضخم والجشع. هناك تغير واضح في الأسعار خلال الأعوام الأخيرة، ولكن الجشع ليس بجديد بل يجري في ابن آدم مجرى الدم، والممارسات الجشعية موجودة باستمرار. أما التضخم أو الغلاء فليس موجودا باستمرار. وقد يجتمعان (التضخم والجشع) وقد لا يجتمعان. الأمر يحتاج إلى بحث وتقص نزيه حيادي. دون ذلك سيكون هناك ظلم. ولعل هذا ما يفسر امتناع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التسعير لمجرد ارتفاع الأسعار. ولذا من حق ولي الأمر أن يتدخل حينما يجد خللا واضحا ناشئا من عوامل مرفوضة شرعا. من يقرر وجودها بعلمية وحيادية؟ موضوع طويل.
إنشرها