Author

موسكو تغلق الباب أمام واشنطن في آسيا الوسطى

|

حتى وقت كتابة هذا المقال يفتقد نظام طالبان الجديد في أفغانستان الشرعية بسبب تجنب دول العالم الاعتراف بحكومته الأحادية، حيث إن المتعارف عليه عموما هو أن يسيطر أي نظام سياسي جديد على كامل أراضي الدولة المعنية، ويشكل حكومة تستوعب مختلف أطياف الشعب شرط لاعتراف المجتمع الدولي به. وهذا الأمر غير متحقق حتى الآن في كابل.
من جانبها تسعى إسلام أباد، المعنية أكثر من غيرها بالشأن الأفغاني، إلى إقناع بعض الدول المجاورة لأفغانستان بإصدار قرار جماعي بالاعتراف بحكومة كابل الجديدة كي لا تقع الأخيرة فريسة للتشدد، على حد زعم مسؤوليها. وليس أدل على هذا من ضم باكستان جهودها إلى جهود إيران لعقد مؤتمر قريبا في طهران بحضورهما ومشاركة الصين وروسيا وأوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان مع استبعاد الهند كليا، من أجل بحث الموقف من حكومة طالبان الأفغانية.
أما طالبان المستميتة من أجل اعتراف دولي بحكومتها، فإنها تراهن كثيرا على موسكو، وترى أن اعتراف الأخيرة بها مقدم لنيلها الاعتراف من دول أخرى، ودليلنا هو ما قاله ذبيح الله مجاهد نائب وزير الإعلام والثقافة في حكومة طالبان أخيرا لوكالة "تاس" الروسية من أن طالبان تتفاوض مع روسيا حول مسألة الاعتراف بها واستئناف عمل السفارات، لأن ذلك - إن تحقق - سيفتح آفاقا من التعاون بين الجانبين من جهة، وأفغانستان ودول الإقليم من جهة أخرى.
في هذا الوقت تبدو واشنطن، الداعمة السابقة لحكومة أشرف غني المطاح بها حذرة وغير واثقة بالنظام الطالباني، بل قلقة من احتمالات عودته إلى سياسات التطرف واحتضان الجماعات المتشددة، وهو ما جعلها تبحث عن قواعد عسكرية على تخوم أفغانستان من أجل التدخل العسكري وقت الحاجة. وفي هذا السياق قيل: إن باكستان رفضت رفضا قاطعا أن تستخدم قواعدها وأراضيها من قبل الأمريكان للتدخل في جارتها الأفغانية، خصوصا أن العكس سيجلب لها صداعا مع حليفتها الصينية.
ومن هنا لم يكن غريبا رؤية المسؤولين الأمريكيين وهم يقودون جهودا دبلوماسية من أجل نيل موافقة الروس على الوجود العسكري في جمهوريات آسيا الوسطى التي تعد ضمن المناطق الخاضعة للنفوذ الروسي بحكم ما كان بين هذه الجمهوريات وموسكو زمن الاتحاد السوفياتي. وقد تجلت تلك الجهود المبكرة، أولا: في القمة الروسية - الأمريكية في جنيف في حزيران (يونيو) الماضي التي خرج الجانب الأمريكي في أعقابها ليعلن أن الرئيس فلاديمير بوتين وافق على طلب من نظيره الأمريكي جو بايدن أن تستخدم واشنطن القواعد الروسية في جمهوريات آسيا الوسطى للتدخل في أفغانستان متى لزم الأمر. ثم تجلت ثانيا في لقاء أنتوني بيلكين وزير الخارجية الأمريكي في العاصمة الأوزبكية طشقند في 22 أيلول (سبتمبر) الماضي مع وزراء خارجية دول آسيا الوسطى الخمس الأعضاء في مجموعة 1+ C، حيث ناقش معهم ضمن أمور أخرى، مسألة تنسيق العمل بشأن أفغانستان. وأخيرا تجلت في لقاء الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية مع نظيره الروسي الجنرال فاليري جيراسيموف في هلسنكي في الـ 24 من سبتمبر المنصرم، وهو لقاء وصفته صحيفة "وول ستريت جورنال" بالمهم، مضيفة أنه شهد نقاشا حول احتمال استخدام واشنطن لقواعد عسكرية روسية في آسيا الوسطى.
بعد لقاء طشقند المشار إليه بعشرة أيام طارت ويندي شيرمان نائبة وزير الخارجية الأمريكي إلى أوزبكستان للاجتماع بقيادتها ولمعرفة ما إذا كان هذا البلد المجاور لأفغانستان مفتوحا بالفعل أمام البنتاجون لإقامة منشآت عسكرية أمريكية، لكنها خرجت خالية الوفاض، إذ لم تتلق إجابة شافية.
وسرعان ما تبين أن تصريحات المسؤولين الأمريكيين وكلام صحفهم حول موافقة موسكو على وجود عسكري أمريكي في جمهوريات آسيا الوسطى كان مجرد أحلام وتضليل لمعرفة ردود أفعال تلك الجمهوريات، حيث ظهر سيرجي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي ليقول: إن بلاده أكدت للمسؤولين الأمريكيين بوضوح "عدم قبولنا للوجود العسكري الأمريكي في دول آسيا الوسطى بأي شكل من الأشكال".
ومن الواضح أن ريابكوف كان يعبر هنا عن رأي دول المنطقة كلها، خصوصا أن أنظمة الحكم في الجمهوريات السوفياتية السابقة تشك في النوايا الأمريكية وتتوجس من مواقف واشنطن التحريضية لتغيير الأنظمة باسم حقوق الإنسان، بل تعد فتح النوافذ للأمريكان أكثر مما يجب مقدمة لنشر الفوضى وعدم الاستقرار. وهذا، بطبيعة الحال، استراتيجية معروفة تبناها الحزب الديمقراطي الأمريكي منذ زمن الرئيس الأسبق باراك أوباما، وما زالت قائمة في عهد جو بايدن الذي تمول حكومته حربا إعلامية شرسة لتشويه سمعة الأنظمة التي لا تستجيب لمرئياتها، ومنها أنظمة دول آسيا الوسطى المتهمة أمريكيا بالديكتاتورية والشمولية وكتم أصوات المعارضة وخرق حقوق الإنسان.

إنشرها