Author

تعافي أسعار النفط

|
تسبب الإغلاق العظيم في سقوط حر لأسعار النفط هوى بها إلى مستويات لم يسبق لها مثيل في التاريخ. أجبر تراجع الأسعار أعضاء منظمة أوبك على تبني تخفيضات حادة لإنتاجهم في نيسان (أبريل) 2020، وذلك لتقليص التخمة العالمية الشديدة في الأسواق النفطية. أسهمت تلك التخفيضات في وقف نزيف أسعار النفط ودعمت عودتها إلى مستويات الـ 40 دولارا للبرميل. في البداية لم تكن تلك التخفيضات كافية لرفع الأسعار إلى مستويات أعلى من ذلك بسبب الهبوط الحاد في الطلب النفطي العالمي. من جانب آخر، عملت أسعار النفط المنخفضة مع مرور الوقت على خفض الإنتاج خارج أعضاء المنظمة والدول المتعاونة معها، وخصوصا في الولايات المتحدة، التي تراجع إنتاجها بنحو مليوني برميل عند نهاية 2020 مقارنة بمستوياته قبل الأزمة.
بدأت أسعار النفط مسيرة تعافيها الحالية في تشرين الثاني (نوفمبر) العام الماضي، لكنها تأكدت بشكل أفضل منذ حلول العام الحالي، حيث استقرت فوق مستويات الـ 50 دولارا للبرميل. بعد ذلك اخترق سعر خام برنت مستويات الـ 60 دولارا للبرميل في شباط (فبراير) الماضي، واستقر حول هذه المستوى حتى حزيران (يونيو) حين تجاوز الـ 70 دولارا للبرميل لأول مرة منذ عدة أعوام. ظلت أسعار النفط في مستويات جيدة بعد ذلك ثم عادت مرة أخرى للارتفاع في تشرين الأول (أكتوبر) الحالي حتى تجاوزت الـ 80 دولارا للبرميل أخيرا، أي أنها تضاعفت خلال عام.
لم يأت تعافي أسعار النفط الحالي من فراغ، بل جاء نتيجة جهود مضنية بذلها منتجو "أوبك" لخفض الإنتاج، وبذلتها حكومات العالم لتحفيز الاقتصادات العالمية وعودة الطلب العالمي للنمو من جديد. تجاوز استهلاك النفط مستويات 100 مليون برميل يوميا قبل أزمة كورونا في 2019، لكنه تراجع بمتوسط يقارب تسعة ملايين برميل يوميا خلال 2020. بعد ذلك تحسن الاستهلاك العالمي خلال العام الحالي حيث من المتوقع أن يتجاوز متوسطه اليومي 97 مليون برميل، وهو أفضل بكثير من مستويات العام الماضي، لكنه لا يزال تحت معدلات 2019 اليومية. ومن المتوقع عودته إلى مستويات ما قبل الأزمة العام المقبل.
النفط سلعة مثل باقي السلع تتأثر أسعاره بعوامل ومستويات العرض والطلب. وتتراجع أسعار النفط أو أي سلعة عند تجاوز الإنتاج مستويات الاستهلاك أو وجود تخمة عالمية في إمداداته. وترتفع أسعار النفط عند تجاوز الاستهلاك مستويات الإنتاج (شح الإمدادات). كانت أسعار النفط ضعيفة في 2020 نظرا لفائض الإنتاج العالمي عن الطلب بنحو مليوني برميل. أما تحسن أسعار النفط الحالي، فقد جاء نتيجة لتجاوز متوسط الاستهلاك العالمي للنفط خلال العام الحالي إنتاجه بنحو مليون برميل يوميا.
يلخص تطور مخزونات النفط العالمية توازن العرض والطلب، وتتوافر بيانات مفصلة ومحدثة عن مخزونات النفط الأمريكية وهي الأكبر على مستوى العالم، وتمثل جزءا كبيرا من مخزونات الدول الصناعية النفطية. وصلت مخزونات النفط الأمريكية إلى نحو 1.9 مليار برميل تقريبا عند بداية الأزمة الاقتصادية في آذار (مارس) 2020. فيما بعد تأثرت المخزونات النفطية الأمريكية بالتخمة النفطية العالمية العام الماضي، وبدأت بالارتفاع مع نهاية آذار (مارس) 2020 حتى وصلت إلى نحو 2.1 مليار برميل في بداية تموز (يوليو) 2020، أي أنها ارتفعت بأكثر من 200 مليون برميل خلال ثلاثة أشهر. بعد ذلك ونتيجة لسياسات خفض إنتاج الدول المصدرة وتحسن الاستهلاك النفطي العالمي شرعت المخزونات النفطية الأمريكية تتراجع شيئا فشيئا حتى عادت في أيار (مايو) الماضي إلى مستوياتها السابقة قبل الأزمة، أي عند مستويات 1.9 مليار برميل تقريبا. واصلت المخزونات تراجعها لكن ببطء حتى وصلت أخيرا إلى نحو 1850 مليون برميل. تؤكد بيانات المخزون وجود شح محدود في الإمدادات العالمية النفطية حاليا، وهو الذي أدى إلى صعود الأسعار أخيرا. تتبنى منظمة أوبك سياسة حذرة في زيادة الإنتاج، كما تبدي والدول المتعاونة معها التزاما بحصص الإنتاج. من جهة أخرى، فإن الإنتاج الأمريكي لم يبد سرعة نمو ومرونة كافيتين في التجاوب مع نمو الطلب العالمي، وما زال أقل من مستوياته المسجلة قبل الأزمة بنحو مليوني برميل.
تسجل عقود خام برنت المستقبلية حاليا أسعارا فوق مستويات 75 دولارا للبرميل لما تبقى من العام الحالي والعام المقبل. وتعد أسعار السوق المستقبلية من أفضل أدوات توقع الأسعار، لكن يجب الحذر من التسليم بتحققها أو تحقق أي توقعات، حيث تتأثر السوق النفطية بعوامل كثيرة ومتعددة تصعب كثيرا الحصول على توقعات دقيقة. وتميل التوقعات أكثر في اتجاه ارتفاع الأسعار عندما تتحسن، ويحدث النقيض عندما تتراجع. يرجح حاليا أن تظل أسعار النفط قوية على الأقل في المستقبل القريب إذا واصل أعضاء "أوبك" والدول المتعاونة معها الحذر من الزيادات الحادة في الإنتاج. في الجانب المقابل، يشجع ارتفاع الأسعار المنتجين الآخرين على زيادة تدفق النفط إلى الأسواق. إن زيادة أسعار النفط سلاح ذو حدين بالنسبة لأعضاء "أوبك"، حيث يرفع عوائد أعضائه، لكنه يشجع المنتجين خارج المنظمة على زيادة إنتاجهم، كما أنه يحفز في الوقت نفسه تطوير واستخدام بدائل النفط، خصوصا إذا ظلت الأسعار مرتفعة لفترة طويلة من الزمن.
إنشرها