Author

الأركان الأساسية للرقابة الداخلية

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
هل هذا الموضوع يحتاج إلى مقال؟، ببساطة، هذه المعلومات موجودة في أي كتاب جامعي متخصص، أو موقع إلكتروني بسيط، ابحث عن مقومات الرقابة الداخلية وستجد الكثير، فلماذا أكتب هذا المقال إذن؟ لسببين الأول، أن الكتب الجامعية حتى المواقع الإلكترونية التي تقلدها ترسم مفاهيم عامة جدا، وعند التطبيق نبحث عنها فلا نجدها، والثاني، أنه لا يمكن تطبيقها في الواقع بهذه المسميات الموجودة في الكتب، والسبب الثالث الذي يدعوني إلى كتابة هذا المقال، هو التوجه في الآونة الأخيرة نحو إنشاء الهيئات والمراكز والشركات الحكومية المستقلة، وهي فوق هذا جديدة تماما بلا رصيد من التجارب والممارسات السابقة، وهناك تسارع في العمل ومع شباب متقد الحماس يريد إثبات التفوق والنجاح من خلال تحقيق الأهداف مباشرة تزامنا مع مراحل التأسيس الأولى، وهنا يبدو الحديث عن الرقابة الداخلية أمرا مملا، خاصة إذا بدأت المسألة بالتنظير عن البيئة الرقابية والسياسات والمخاطر المؤسسية والخطوط الثلاثة، واستقلال المراجعة الداخلية، كل ذلك يشعر الرئيس التنفيذي بالملل، لأنه ليس الحديث عن الإنجازات وكيف تتحقق مباشرة. فالرقابة لا تتعدى عند البعض وجود صلاحيات وشخص يعد الفاتورة أو الخطاب وآخر يوقعها، ثم ترى مراجعا داخليا يدور بين المكاتب في محاولة يائسة منه للتعريف بنفسه، على ألا يغضب منه أحد، ولا يتنمر عليه مدير إدارة مع سؤال ملح عن أسباب وجوده بما يجعله يطيل التفكير عن البحث عن عرض آخر في مؤسسة أخرى لا تريد مراجعا داخليا. لهذا كله أكتب هذا المقال.
بداية لا تشعر عزيزي القارئ بأي قلق، سواء كنت مراجعا داخليا أو مديرا أو رئيسا تنفيذيا أو حتى من أصحاب المعالي، من عدم إحاطتك بكل جوانب الرقابة الداخلية، فهذا حدث مع كبار التنفيذيين في العالم، ولقد شهد العالم من الانهيارات في القرن الماضي ما جعل التنفيذيين يدركون أنهم بحاجة إلى من يعطيهم دليلا إرشاديا واضحا بشأن الرقابة الداخلية، لكن المسألة ليست ببساطة دليل إرشادي لتركيب قطعة أثاث من "أيكيا"، لأن الأشخاص الذين يقفون خلف هذه المؤسسات لديهم مصالح استشارية كبيرة وهذه سوق رائجة، كمثل شهادات الجودة والاعتمادات، والمؤشرات العالمية، لكن جمال حقيقة الأشياء تكمن في بساطتها.
لا نظام للرقابة الداخلية دون الوجود القانوني للمؤسسة، ووجودها يكمن في نظامها الأساس، فإذا كانت شركة فالعقد بين الشركاء هو الذي منح السلطة للتصرف بالأموال، وهو الذي أوجد المسؤولية عن هذا التصرف، وفي الأجهزة الحكومية يكون النظام أو التنظيم الذي أوجد الجهاز وحدد السلطات الممنوحة وإلى أي مدى، ومن هنا تبدأ مكونات الرقابة الداخلية، فالنظام الأساس هو الذي يحدد من له حق التصرف بالأموال في أي مجال ومن يشرف عليه ولمن ترفع التقارير، لكن النظام الأساس مجرد نص قانوني له شكله والمستوى من التفصيل، ولابد من لوائح تنفيذية بعد النظام قد تسمى عند البعض بالسياسات، فمثلا نظام الشركة قد يعطي مجلس الإدارة حق تحديد تعويضات ومكافأة الرئيس التنفيذي، لكن النظام يقف هنا ولا يحدد رقما أو سلما أو شيئا من ذلك، هنا يأتي دور السياسة التي يتركها النظام لمجلس الإدارة لكي يقرر سياسته في ذلك، ولابد أن يضع المجلس سياسة واضحة في نص واضح تفصل بعض آليات استقطاب الرئيس التنفيذي "مثلا" مع مبررات واضحة لذلك، في بعض الحالات قد لا تكون السياسات كافية التفصيل وقد يعد من خلالها لائحة تنفيذية، وفي بعض الأحيان قد يتم القفز على اللائحة باعتبارها سياسة، ولكن مع الأسف هنا تبدأ الأخطاء، فأعضاء مجالس الإدارات غير متفرغين "في العادة" لوضع سياسات محكمة وطويلة الأجل، بل يتحول الأمر إلى ما يشبه المفاوضات العامة والاتفاق على خطوط عريضة، خاصة إذا بدأ الرئيس التنفيذي يقحم المجلس في الخطة الاستراتيجية قبل وضع السياسات. فالأصل أن يبدأ الرئيس التنفيذي بممارسة صلاحياته التي نص عليها النظام بوضع سياسات واضحة لتفاصيل كثيرة بشأن الاستقطاب وتعويض الموظفين وآليات وضع الخطط الاستراتيجية والتنفيذية والتقييم والمؤشرات ولوائح مالية وإدارية وسياسات أخرى كثيرة، لأن هذه التفاصيل تحدد نطاق العمل للرئيس التنفيذي وهي ميثاق العمل لتبدأ بعد ذلك رحلة بناء المؤسسة.
عند إنشاء الإدارات قد لا تكون الإجراءات موجودة حتى عددا كبيرا من السياسات، وهذا طبيعي جدا، لأن معظم الإجراءات لا يمكن إعدادها إلا من شخص مختص خبير، مثل إجراءات تقنية المعلومات، والإجراءات المحاسبية والمالية وغيرها، ما يصعب على أي رئيس تنفيذي حصرها أو الإحاطة بها، ولذلك فإن التوظيف الجيد لمختص له خبرة كافية في تأسيس الإدارات هو الفيصل بين الحياة والموت لتلك الإدارات، وفي حياتي المهنية رأيت مديري إدارات لهم باع في التنفيذ وإدارة العمل اليومي، لكنهم يفشلون تمام عند التأسيس فلا خبرات تعينهم عليه ورأيت العكس، ولذلك لا بد من اختيار الشخص المناسب للفترة المناسبة، ودور مدير الإدارة هو إعداد أمرين معا، هما الإجراءات التنفيذية للسياسات التي تحقق المهام الرئيسة كما حددها النظام، بعد ذلك يتم تعيين الموظفين التنفيذيين بتدرج، فلا يتم تعيين الخريجين مباشرة، بل يتم استقطاب تنفيذيين بخبرة معقولة لبناء نماذج العمل وهي التي يتم إخراجها في شكل ورقي أو إلكتروني لإعداد وتطوير قواعد البيانات وآليات التوثيق ونماذج التقارير، ثم يتم أخيرا استقطاب خريجين جدد لتدريبهم على هذا العمل المعد جيدا والمحكم التفاصيل.
هذه هي مكونات الرقابة الداخلية ببساطة ودون تعريفات تنظيرية، نظام أساس يحدد الأهداف والمهام وصاحب الصلاحية، وآليات التفويض، ثم سياسات أكثر تفصيلا تحدد رؤيته لكيفية تنفيذ النظام وتحقيق الأهداف وتقسم العمل عند كل مستوى مسؤولية، ثم إجراءات تنفيذية يضعها المدير المباشر للمهام، ثم نماذج عمل يطورها الموظفون الممارسون، وتقارير مرحلية ثم موظف كفؤ يتم تدريبه بشكل مستمر، ثم تأتي بعد ذلك كله إدارة للمراجعة الداخلية وإدارة للمخاطر وإدارة للالتزام، ثم مراجع خارجي في نهاية المطاف.
إنشرها