Author

البيروقراطية .. ومعطيات العصر «1من 2»

|

أستاذ هندسة الحاسب في كلية علوم الحاسب والمعلومات بجامعة الملك سعود

عندما نقول “بيروقراطية Bureaucracy”، أو نصف موظفا، في أي قطاع من قطاعات العمل، بأنه “بيروقراطي Bureaucrat”، تكون أمامنا جملة من السلبيات التي نود الاحتجاج عليها، مثل الجمود وعدم المرونة، والتمسك بالشكليات بعيدا عن المضامين، وتعطيل ما يجب أن يستمر دون سبب كاف، وبطء الأداء وتأخير الحصول على المخرجات، وما إلى ذلك من معان. هذا على أرض الواقع، وفيما هو متداول، لكن للبيروقراطية جذورا طيبة أنبتتها، انطلقت من الحاجة إلى حسن إدارة المؤسسات الكبرى في مختلف القطاعات الحكومية والخاصة، حيث حظيت بالترحيب والتبني من قبل مختلف دول العالم ومؤسساتها الكبرى.
واجهت البيروقراطية، مع التجربة ومرور الزمن، مشكلات لم تحاول كثير من المؤسسات التي تبنتها، العمل على حلها، ما أكسبها التوصيف السلبي الذي هي فيه. ليس هذا فحسب، بل إن بعض موظفي مثل هذه المؤسسات كانوا يتخذون مواقف صارمة، بعيدة عن المرونة، تستند إلى أنظمة قائمة، على الرغم من وجود نوافذ نظامية، تعطيهم حدودا من المرونة لا يرغبون فيها، ربما كي لا ينالهم الاتهام بالتساهل.
لهذا المقال، والمقال القادم المكمل له غايتان رئيستان: أولهما التعرف على معنى البيروقراطية كما نشأت، ثم بيان التحديات التي تواجهها، خصوصا مع تطور معطيات العصر، وثانيهما محاولة طرح حلول لهذه التحديات تنطلق من معطيات العصر وتسعى إلى معالجة هذه التحديات.
إذا نظرنا إلى كلمة “بيروقراطية” لغويا، نجد أنها حصيلة دمج كلمتين. أولهما الكلمة الفرنسية “بيرو Bureau” وتعني “مكتب”، والثانية الكلمة اليونانية “كراتوس kratos” وتعني حكم أو سلطة. بذلك تكون حصيلة المقصود هي “حكم المكتب” أو “سلطة المكتب”، أي أن البيروقراطية تحدد سلطة المكتب، أي تنظم شؤون حكم المؤسسات. وهناك تعريفان مهمان للبيروقراطية، أحدهما يركز على جانب دورها وتكوينها العام، وصاحبه هو “ماكس ويبر Max Weber” العالم الألماني الذي أطلق البيروقراطية، في القرن الـ 19، كحل إداري للمؤسسات الكبرى. أما التعريف الثاني، فقد جاء بعد التعريف الأول بأعوام مثلت خبرة في تطبيقها، لذلك نجده مرتبطا بالمعنى السلبي المتداول حاليا، وهو مطروح في أكثر من قاموس، بينها قاموس “ميريام - وبستر Merriam --Webster”.
يرى “ماكس ويبر” أن دور البيروقراطية هو “إدارة المؤسسات”، وأن تكوينها يشمل “أحكاما، وإجراءات، وتنظيمات، وأنظمة، إضافة إلى نموذج عام للإدارة”. وقد وضع “ويبر” ستة مبادئ لتنفيذ البيروقراطية على أرض الواقع. أما التعريف الآخر الذي يتصف بالسلبية فيقول إن “البيروقراطية هي نظام للإدارة يتصف بصفات ثلاث هي: قصور في المرونة والمبادرة مع شدة الالتزام بالأنظمة، وتعقيد في الإجراءات، إضافة إلى التوسع في المزيد منها”.
وضع “ماكس ويبر” ستة مبادئ للبيروقراطية. يهتم المبدأ الأول “بالهرمية” أي تقسيم المؤسسة إداريا إلى أقسام متعددة تشمل أقساما فرعية متعددة المستويات، حيث توزع مهمات العمل على هذه الأقسام والعاملين فيها، وحيث تأتي الإدارة العليا على قمة الهرم. ويقضي المبدأ الثاني “بتوصيف مهمات العاملين” وتكاملها ضمن إطار عمل المؤسسة والتخصصات المختلفة التي تحتاج إليها، ويكون لكل مهمة في هذا التوصيف إجراءات ينبغي القيام بأدائها من قبل من يتمتعون بالتأهيل المناسب معرفة ومهارة. ويأتي المبدأ الثالث متمما لسابقه، حيث يركز على “تقسيم العاملين” وتوزيعهم على المهمات بالشكل المناسب الذي يؤدي إلى تحقيق فاعلية العمل وكفاءته.
ونأتي إلى المبدأ الرابع للبيروقراطية الذي يرتبط “بعمليات المؤسسة” التي تستند إلى شؤون تنظيمها وإجراءاتها. فالمقصود بالعمليات هنا هو سياسات العمل اليومي وتوجهاته وتأمين متطلباته وتنظيم أداء العاملين له بالشكل المأمول. ونصل إلى المبدأ الخامس الذي يختص بشؤون “التوظيف على أساس أخلاقي” يؤكد المهنية والتعاون وأداء الواجبات. ويبرز أخيرا المبدأ السادس الذي يركز على “العدالة” والمساواة وعدم التمييز.
اهتمت المؤسسات الكبرى بما قدمه “ويبر” وقامت بتنظيم شؤونها وإدارة عملها على أساس مبادئ البيروقراطية، سابقة الذكر، حيث باتت هذه المبادئ مرجعية أساسية في تكوين هذه المؤسسات. لكن تعقيدات التواصل الداخلي بين أقسام المؤسسات وتفرعاتها، وكذلك التواصل الخارجي مع الجهات المرتبطة بها، أو المتلقية لمعطياتها، باتت تؤدي إلى مشكلات في الأداء تحتاج إلى حلول.
ويضاف إلى ما سبق ثلاثة أمور مهمة. أولها أن حالات العمل المطروحة، في إطار النظام العام للبيروقراطية، لا تحقق دائما شروط العمل المنظم المعتاد، وإنما تتصف بخصوصية، ربما تكون اجتماعية أو إنسانية تحتاج إلى تفهم وقرار مناسب خارج إطار حدود هذا النظام. مثل هذه الحالات تبقى معلقة لفترات زمنية غير محددة، ما لم تكن هناك مرونة خاصة للتعامل معها، وتقديم الحلول المناسبة لها. أما الأمر الثاني، فيتعلق بما يحدث عادة تحت شعار تطوير المؤسسات، حيث يتم وضع أنظمة جديدة من أجل هذا التطوير، مع المحافظة على الأنظمة المعتادة السابقة، فتتراكم الأنظمة، ويتعقد العمل، والثمن مزيد من ضعف الأداء، وتوسع عدم الرضا داخل المؤسسة وخارجها. ونصل إلى الأمر الثالث الذي يتضمن عقلية الموظف الذي يعيش في ظل البيروقراطية، فيصبح جزءا منها لا يرى إلا ما تراه، ولا يسمع إلا ما تسمع، ليزداد بذلك الجمود، وتتراجع المرونة التي تحتاج إليها قضايا الحياة المختلفة.
وتأتي معطيات العصر الذي نعيش فيه لتقول للبيروقراطية، آن أوان بروز نماذج جديدة في إدارة المؤسسات. لن تستغني هذه النماذج بالضرورة عن تنظيم هياكل المؤسسات، وتحديد إجراءات إدارتها وتنفيذ أعمالها، والسعي إلى تحقيق أداء مناسب تنافس فيه الآخرين، لكنها في الوقت ذاته، لن تقبل أيضا الجمود وقصور الرؤية عن الحالات الخاصة، وتعطيل مصالح أصحاب العلاقة. معطيات العصر تقدم لنا وسائل إدارية لتطوير الأعمال المختلفة، على رأسها “الهندرة (الهندسة الإدارية)”، أي “إعادة هندسة إجراءات العمل Re-Engineering”، وتكرار هذه الإعادة دوريا، كما أنها تعطينا الإنترنت ووسائط “العالم السيبراني” والتحول الرقمي الذي ينقل إجراءات العمل المعلوماتية إلى عالم شفاف مفتوح يتمتع بالرشاقة والكفاءة والفاعلية. ولعل في هذه المعطيات علاج لعثرات البيروقراطية، سنناقشه في المقال القادم بمشيئة الله... يتبع.

إنشرها