سوق العمل .. المهارة ثم المهارة

تعد سوق العمل ركيزة أساسية لأي اقتصاد في العالم، لأنها توفر أحد أهم عناصر الإنتاج، فهي القوى البشرية القادرة على تحريك العمل وقيادته، وأن النظرية الاقتصادية تؤكد أن لهذا العنصر سوقا تحدد قيمة قوة العمل فيها من خلال المنافسة، كما أن المنافسة هي الضامن الوحيد للجودة، سواء كانت هذه القوى وطنية أو أجنبية، أو بين القوى البشرية وقوة الآلة، وإذا كانت هناك منافسة وجودة فلا بد من تأسيس تنظيم للسوق، خاصة عندما تصل المنافسة إلى مستويات تؤثر بشكل جوهري في رفاهية الإنسان والمجتمعات.
ونلاحظ أن المنظم للاقتصاد السعودي منذ البداية، اهتم بهذا الموضوع بشكل أساسي كدعامة أساسية، وفي وقت كان الاقتصاد الوطني يعتمد فيه على النفط فقط، وكان تطوير الكوادر السعودية يرتكز على ذلك بجهود شركة أرامكو، ثم ظهر القطاع البتروكيماوي ومن ثم جامعة الملك فهد البترول والمعادن، ثم توسع القطاع البنكي والمؤسسات التعليمية، وكلاهما يتطلب تنامي الطلب على الكوادر المؤهلة لهما حتى تشبعت السوق، في وقت كان فيه الاقتصاد العالمي والمحلي يتحركان بشكل قوي نحو قطاعات صناعية وهندسية وطبية ترتكز على الآلة والذكاء الاصطناعي.

ولأن الاقتصاد لا ينتظر التعليم فقد تم ملء الفراغ بالعمالة الأجنبية، خاصة في المناصب القيادية والعالية المهارة، ومع التشبع هنا والمنافسة الحادة من الجانب الأجنبي هناك، فإن سوق العمل كانت بحاجة إلى إطار عمل جديد تماما، ولهذا أطلق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، برنامجا جديدا ضمن برامج رؤية المملكة 2030 لتنمية الموارد البشرية من أجل إصلاح الخلل في جانب العرض وتعزيز الطلب على الكادر السعودي المؤهل في قطاعات المستقبل خصوصا.
ويختلف برنامج تنمية الموارد البشرية عن كل الجهود السابقة في عدة جوانب، أولها وأهمها أن خطط العمل السابقة كانت مقصورة على مفهوم التوطين، أو السعودة، وكانت المبادرات تعتمد على الضغط النظامي بفرض الغرامات على القطاع الخاص، عندما لا تتحقق نسب معينة في السعودة ودونما معالجة أساسية لجانب العرض من تأهيل وخلافه.

والأمر الآخر هو، أن مشاريع السعودة كانت تبنى على جهود وزارة العمل ومكاتبها فقط، دونما مسؤولية مباشرة أو مشاركة واضحة من الجهات الأخرى ذات العلاقة، لكن مع البرنامج الجديد فإن مفهوم التوطين يأتي نتيجة طبيعية لما ستصل إليه مستويات العرض، فقد أشار وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية إلى أن البرنامج يهدف إلى حصول 80 في المائة من الخريجين على الفرص الوظيفية المناسبة خلال 12 شهرا من تخرجهم، ورفع نسبة التوطين في الوظائف عالية المهارة إلى 40 في المائة.

وتجدر الإشارة هنا إلى عبارة الوظيفة المناسبة خلال 12 شهرا، فالعرض في سوق العمل يكون فعالا عندما يكون طالبو العمل مناسبين تماما لما تم طرحه من وظائف، وليس مجرد وجودهم في منصات طلب التوظيف، كما أن هناك عبارتين في غاية الأهمية، فالبرنامج يسعى لأن يكون المواطن السعودي منافسا عالميا في الوظائف عالية المهارة، فالتوطين يتضمن إصلاح جانب العرض من حيث نوعية الوظائف المطلوب عرضها، كما أن المنافسة العالية تؤكد أنه يجب على المتقدمين لهذه الوظائف تملك مهارات عالية تتناسب مع هذه الوظائف. هنا تتضح وبصورة جلية المفاهيم العميقة التي تقف خلف هذا البرنامج.

فحصول 80 في المائة من الخريجين على وظيفة هو تحد كبير للبرنامج، فالإحصائيات تشير إلى أن هناك نحو 400 ألف خريج سنويا، ومع استمرار النمو بنسب تصل إلى 28 في المائة في بعض المناطق، فالعمل على توظيف 80 في المائة خلال 12 شهرا يعني إيجاد وظائف لـ320 ألف خريج سنويا، وهذا يتطلب نموا مماثلا في القطاعات الاقتصادية والصناعية حتى توفر وظائف كافية، لأن التركيز على عنصر الإحلال قد لا يكون كافيا بذاته.
هذا ما يقودنا إلى فهم المقصود من البرنامج، فهو لا يرتكز في نجاحه على جهود وزارة الموارد البشرية فقط، بل لا بد من مشاركة وزارات أخرى، من أهمها التعليم والصناعة. ولهذا، جاءت الجلسة الحوارية للكشف عن تفاصيل وأهداف ومبادرات برنامج تنمية القدرات البشرية، بمشاركة من وزيري التعليم والصناعة، ما يظهر إشارة واضحة إلى أن البرنامج شامل لعدة قطاعات.

ولتحقيق هذا، فقد تضمن البرنامج إنشاء وحدة استشراف العرض والطلب، وتكون معنية بالاستشراف والتنبؤ بالتخصصات المطلوبة في الاقتصاد السعودي وبرامج الرؤية والقطاعات الجديدة المستقبلية، كما أن هناك مبادرة لتسريع المهارات وإعادة تأهيل الشباب ممن تخصصوا في تخصصات ليس لها مستقبل وظيفي، وذلك من خلال الشراكة مع القطاع الخاص تتيح مجالا واسعا لوزارة الصناعة في تطوير جانب العرض ودمج الخريجين بالقطاع الخاص واستشراف المستقبل.

وقد أشار وزير الصناعة إلى أن برنامج تنمية القدرات البشرية سيكون أساسيا في جانب قطاع الصناعة والتعدين، لأن هذا القطاع بالذات يشكل مستقبل الاقتصاد السعودي غير النفطي، فالبرنامج سيكون له دور أساسي في إيجاد الكفاءات والقدرات القادرة على إحداث نقلة كبرى في هذا القطاع، وهذا يذكرنا بالنجاحات الكبيرة التي نتجت عن تحريك قطاعات النفط والبتروكيماويات من خلال خريجي جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، كما أن التقدم السريع في قطاعات الذكاء الاصطناعي يتطلب تقاربا نشطا بين وزارتي التعليم والصناعة.

وهنا يتضح دور التعليم في جانب إصلاح العرض بتحقيق مفهوم المواطن السعودي منافس عالميا، فالوصول إلى الوظائف يكون بمستوى وجود الكفاءة، وإذا كان الأصل في الوظائف هي كونها حقا للمواطن أولا، لكن هذا لا يعني ألا يكون المواطن كفؤا لها، لأن التشبث بمفهوم حق العمل للمواطن دون كفاءة يعني فقدان الاقتصاد السعودي قدراته التنافسية ما يعطل تحقيق عديد من برامج رؤية المملكة 2030، فالمخطط السعودي يسعى إلى تحقيق مفهوم حق العمل للمواطن ونجاح الاقتصاد في التقدم، ولذا لن يتم تجسير هذه الفجوة بين الموضوعين ما لم يكن هناك تأهيل قوي للخريجين.

وقد أكد وزير التعليم، أن برنامج تنمية القدرات البشرية، يوفر إطارا لإعداد المواطن لسوق عمل يكون فيها منافسا وتحقيق استدامة من خلال إتاحة فرص التعلم المستمر مدى الحياة لكل مواطن، ما يعني أن التغيرات المستقبلية في الاقتصاد والصناعة ستنعكس في حينها على التعليم الذي سيعيد تأهيل المجتمع بمختلف الأعمار للموضوعات المستجدة، فالبرنامج يهتم بالمواطن من مرحلة مبكرة، وهي رياض الأطفال، امتدادا إلى أن يتخرج من المرحلة الجامعية ويدخل سوق العمل، وما بعد ذلك، كما أن منافسة المواطن السعودي في سوق العمل تتطلب وجود تعليم منافس أولا، ولهذا يركز البرنامج على التصنيف العالمي للجامعات، بوصول ست جامعات سعودية ضمن أفضل 100 جامعة في العالم، وتحقيق جامعة الملك سعود مركزا ضمن أفضل عشر جامعات عالمية أيضا.
ولتحقيق منافسة عالمية للتعليم لضمان وصول الخريجين في جميع المراحل إلى المستويات المنشودة، فإن البرنامج يتضمن دورا مهما لهيئة تقويم التعليم، لتحديد المهارات للمهن القطاعية ووضع الحلول المناسبة لمعالجة الفجوة بين المهارات المطلوبة للوظائف ومهارات الأفراد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي