Author

«غواصات» تربك التحالف الغربي

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"نتعاون بشكل وثيق مع فرنسا بشأن أولوياتنا المشتركة في المحيطين الهندي والهادئ"
جو بايدن، رئيس الولايات المتحدة

لم تخف الحكومة الفرنسية فرحتها من خسارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب؛ الانتخابات الأخيرة، إلى درجة أن غردت آن هيدالجو؛ عمدة مدينة باريس، فور تسلم الرئيس جو بايدن؛ مقاليد السلطة خلفا لترمب؛ بتعبير انتشر في كل الأرجاء welcome back America أو "أهلا بعودتك أمريكا". فالمشكلات الاقتصادية حتى السياسية بين باريس وواشنطن شابت العلاقات طوال فترة وجود ترمب في البيت الأبيض، وهي نفسها طبعت علاقات الولايات المتحدة آنذاك مع بقية دول أوروبا وعدد من الدول الأخرى، ولا سيما على صعيد المعارك والحروب التجارية المتعددة مع هذا البلد أو ذاك. عرف كل الدول الحليفة للولايات المتحدة أن بايدن ينتهج أساسا استراتيجية الشراكة للوصول إلى الغايات، وسياسة التفاهمات لتحقيق الأهداف، خصوصا تلك التي تتصل بالعلاقات الدولية والثنائية أيضا.
عدت فرنسا صفقة الغواصات بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، بمنزلة طعنة في ظهر باريس من جانب الأطراف الثلاثة، حتى إن جان إيف لودريان؛ وزير الخارجية، قال صراحة: "إن بايدن اتخذ قرارا مفاجئا على طريقة ترمب". فالمسألة ببساطة تنحصر في أن استراليا ألغت صفقة موقعة أصلا مع فرنسا منذ عدة أعوام لبناء غواصات لها، مقابل صفقة جديدة مشتركة بين لندن وواشنطن. هذه الصفقة رغم أنها تختص بجانب عسكري واضح، إلا أنها تشكل في الواقع نواة تحالف أمريكي - بريطاني - أسترالي، رغم أنها لا تضرب الأسس التي يقوم عليها حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يجمع كل هذه الدول، وهو المكلف بصناعة توازن القوى مع الدول الكبرى خارجه، ولا سيما الصين وروسيا.
إلغاء الحكومة الأسترالية صفقة الغواصات، أثّر بالفعل في فرنسا من الناحية الاقتصادية. فباريس وضعتها ضمن نطاق الحراك الاقتصادي ما بعد وباء كورونا، وتصل قيمتها إلى أكثر من 40 مليار دولار. وهذه الصفقة كانت ستوفر فرص عمل هائلة على الساحة الفرنسية، وتعزز الشراكات الموجودة بين باريس وكانبرا. ومثل هذه الصفقة كانت ستدعم علاقات أستراليا ببقية دول الاتحاد الأوروبي التي ستتسلم فرنسا رئاسة دورته المقبلة. والحكومة الفرنسية كانت ترغب أساسا في رفع مستوى المبادلات التجارية المتواضعة مع هذا البلد. فالاستثمارات الفرنسية في أستراليا لا تزيد على 6.3 مليار يورو، فيما سجلت الاستثمارات الأسترالية في فرنسا 1.5 مليار يورو فقط. فصفقة الغواصات كانت ستوفر قوة دفع قوية على صعيد العلاقات الاقتصادية بين الدولتين. فضلا عن أنها ستقلل من زخم العلاقات بين أستراليا وبريطانيا، حيث تسعى هذه الأخيرة لاتفاق تجاري كامل في أعقاب خروجها من الاتحاد الأوروبي.
لا أحد يأخذ كلام المسؤولين الأستراليين على محمل الجد بخصوص المبررات التي أطلقوها لإلغاء الصفقة مع فرنسا. فهم يقولون: إن الإلغاء بسبب تصميم الغواصات الفرنسية للعمل بالوقود التقليدي، بينما عرض البريطانيون والأمريكيون غواصات تعمل بالوقود النووي. فالفرنسيون يستطيعون حقا تعديل مخططات البناء هذه، وهم معرفون بخبرتهم في المجال النووي، حتى إن شركات فرنسية تدير فعليا المفاعلات النووية البريطانية منذ أعوام عديدة، فضلا عن امتلاكها شركات الكهرباء البريطانية، التي تولد التيار الكهربائي عبر هذه المفاعلات أصلا. لكن الواضح، أن المسؤولين الأستراليين فضلوا الشراكة مع لندن وواشنطن، رغم أن التكاليف المتوقعة للصفقة مع هاتين العاصمتين ستكون أكبر من الصفقة المبدئية مع فرنسا. وهذا ما طرح أسئلة خطيرة بالفعل تتعلق بالأمن العالمي ككل.
الولايات المتحدة تتحرك لرص صفوف التحالف الغربي للوقوف في وجه المد الصيني في المحيط الهادئ، مع تنامي نفوذ الصين في هذه المنطقة الحيوية. وحدوث فجوة في التحالف بسبب إلغاء صفقة الغواصات، يعطي الصينيين إشارات مريحة ولو كانت آنية. الغضب الفرنسي وصل إلى حد اعتبار وزير الخارجية الفرنسي إلغاء الصفقة بأنه سيؤثر في ماذا؟ في تعريف المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف (الناتو). هذا الكلام، لا يعني بالطبع أن فرنسا مستعدة للانسحاب من النظام الغربي الجديد - إن صح التعبير - الذي أعاد بايدن تكريسه فور وصوله إلى الحكم، إلا أنه قد يؤدي إلى شرخ ما، في وقت يتفق فيه الغرب على ضرورة التحضير للمواجهة المستمرة مع الصين. فالاتحاد الأوروبي، أصدر بالفعل استراتيجيته لمنطقة المحيطين الهندي والهادي، متعهدا بالسعي لإبرام اتفاق تجاري مع تايوان، ونشر مزيد من السفن لإبقاء الطرق البحرية مفتوحة.
وأيا كان الأمر، فإن التحالف الغربي سيبقى متماسكا بالطبع، لكن العلاقات الأوروبية - الأسترالية، ستكون متوترة في الفترة المقبلة، خصوصا أن الحكومة الفرنسية أعلنت صراحة، عدم قدرتها على الوثوق بأستراليا في المحادثات الجارية بشأن إبرام اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي. وهذا الموقف قد يؤثر بالفعل في إبرام هذا الاتفاق قريبا، في الوقت الذي تتحرك فيه بريطانيا منذ بداية العام الجاري لعقد اتفاق تجاري مفتوح مع أستراليا، بعد خروجها من الكتلة الأوروبية. ولباريس القوة الحقيقية على تعطيل أي مشروع أوروبي مع أي طرف في هذا العالم إذا ما رغبت في ذلك.

إنشرها