Author

بريطانيا .. الأزمة مزدوجة

|
يواصل الاقتصاد البريطاني تسجيل تراجع يعد الأكبر على الإطلاق خلال الفترة الأخيرة، بعد إجراءات الإغلاق الخاصة بفيروس كورونا، التي أدخلت البلاد رسميا في حالة ركود، وانكمش الاقتصاد 20.4 في المائة مقارنة بالأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام. كما انخفض إنفاق الأسرة في بريطانيا بعد إصدار الحكومة أوامر بإغلاق المتاجر، ما أدى إلى انخفاض إنتاج المصانع وحركة البناء، وأدخل هذا الوضع الصعب المملكة المتحدة في أول ركود لها، بعد تراجع اقتصادها ربعين متتاليين، منذ 2009، فيما عانى قطاع الخدمات، الذي يغذي أربعة أخماس الاقتصاد أكبر انخفاض له على الإطلاق خلال ثلاثة أشهر. وبينما تتوقع آخر التقارير حدوث انتعاشة اقتصادية قوية، يشير بنك إنجلترا إلى أنه لا يرجح عودة مؤشرات الاقتصاد إلى حجمها الذي كان عليه قبل انتشار الوباء حتى نهاية العام المقبل، بينما يتوقع مكتب الميزانية التابع للحكومة، أن يستغرق التعافي وقتا أطول.
وفي هذه الأجواء والظروف الاقتصادية الحرجة سجلت بريطانيا نقصا حادا في العمالة، نتيجة انسحابها أول العام الجاري من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، وكانت هذه المعاناة متوقعة، لأن نسبة كبيرة جدا من الأوروبيين الذين يعملون في عدد من القطاعات المحورية، ولا سيما الخدمية منها، عادوا إلى بلادهم، نتيجة القيود المشددة على التوظيف التي تفرضها قواعد "بريكست"، وذلك بعدما صوتت المملكة المتحدة في 2016 على الخروج من الكتلة الأوروبية نهائيا، وكانت المؤشرات تدل على مشكلات جمة على الصعيد الاقتصادي في البلاد مع فك الارتباط الكامل في بداية العام الجاري.
ومع أزمات كورونا و"بريكست" المجتمعة والمتزامنة في وقت واحد، دخل الاقتصاد البريطاني في ممرات ضيقة وصعبة، باعتراف كبار المسؤولين في البلاد، وذلك بعد أن فوجئ البريطانيون باستمرار النقص الحاد جدا في الأيدي العاملة، ومغادرة عشرات الآلاف من المواطنين الأوروبيين المملكة المتحدة.
ففي العام الماضي انسحب أكثر من 200 ألف أوروبي من الأراضي البريطانية، وما حدث بالفعل أن المحال التجارية، وخصوصا تلك العاملة في قطاع المواد الغذائية، عانت ولا تزال نقصا في السلع والإمدادات، فالنقص في الأيدي العاملة شمل خدمة العملاء والسائقين، ناهيك عن النقص الشديد في القطاع الطبي عموما، وفي مجال خدمات مثل الإطفاء، والحراس، إلى جانب خدمات الضيافة والمطاعم، والأنشطة المختلفة الأخرى المرتبطة بها.
هذا التراجع في العمالة والتوتر الحاضر بسبب تداعيات كورونا يؤثر مباشرة في مسيرة التعافي الاقتصادي عموما، فالتوقعات تشير إلى ارتفاع نسبة معدلات التضخم، وارتفاع أسعار المستهلكين فوق المستهدف لخمسة أعوام مقبلة، وهذه النقطة بحد ذاتها تمثل ضربة للحكومة الحالية، التي تسعى للبقاء في الحكم في الانتخابات المقبلة، عبر تقديم أفضل مستوى من الخدمات والرعاية للناخبين.
التداعيات الاقتصادية التي تسبب فيها وباء كورونا رفعت من حدة التحديات والضغوط على الاقتصاد البريطاني، الذي وصفه ريشي سوناك وزير المالية بأكبر ركود منذ ثلاثة قرون.
وسط هذه الضغوط، تتراجع بقوة مبيعات التجزئة، وهذا القطاع يمثل محورا رئيسا للاقتصاد في المملكة المتحدة، وهذا التراجع بدأ قبل أربعة أشهر، ولا يزال مستمرا، ومن المتوقع أن يواصل حتى نهاية العام الجاري، والمشكلة هنا أن هذا الانخفاض جاء على عكس كل التوقعات من الجهات المختصة، فيما تبرز بقوة قضية التضخم هنا، خصوصا بعد الإجراءات الواسعة التي اعتمدتها حكومة بوريس جونسون على صعيد التيسير الكمي لدعم الأعمال والحراك الاقتصادي خلال أزمة كورونا. لكن بنك إنجلترا المركزي، يعتقد أنه آن الأوان لتشديد هذه السياسة من أجل السيطرة على التضخم في المستقبل القريب.
وأكثر ما يقلق المشرعين البريطانيين منه حاليا هو ذاك النقص الحاد في الأيدي العاملة في قطاع الضيافة، فمدينة مثل لندن على سبيل المثال تتصدر قائمة المدن الأكثر استقطابا للسياح، متجاوزة باريس وروما وغيرهما، والمسألة الكبرى هنا، أن نسبة كبيرة من العاملين في هذا القطاع تأتي من دول الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي دفع أصحاب الأعمال في قطاع الضيافة إلى الطلب من الحكومة، أن تدخل تعديلات على هذا الجانب ضمن اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي.
بريطانيا تعد الوحيدة على الساحة الأوروبية التي واجهت أزمتين في آن معا، إلى حد أن السلطات المختصة تتجه إلى تطبيق نظام العمل المرن لأجل غير مسمى، ليس بسبب محاذير كورونا، بل لتوفير مغريات للعاملين من أجل مزيد من العمل لسد الثغرات التشغيلية الحالية في معظم القطاعات التي شملت نسبة مرتفعة من العمالة الأوروبية. وفي كل الأحوال، سيستمر فترة ليست بالقصيرة تأثر التعافي الاقتصادي البريطاني سلبا بمؤثرات الجائحة و"بريكست" في آن معا.
إنشرها