Author

مكاتب البريد البريطانية .. وفضيحة الكمبيوتر المالية

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
في كل عقد من عقود القرن الـ20، كانت الأسواق العالمية تقف مذهولة أمام انهيارات كبيرة في الأسعار، نتيجة الفضائح المالية للشركات والصناديق المالية العملاقة، ثم تبين لاحقا أنه لا توجد شركة في العالم ولا سوق محصنة من مثل هذه الكوارث المالية، فالفساد لم يكن يوما مرتبطا بحب المال والثروة فقط، بقدر ما هو مرتبط بمدى توافر العناصر الثلاثة الأساسية، وهي: الفرص، الضغوط، والتبريرات. هكذا تسير الأمور عادة، فلم تكن مشكلة الفساد مرتبطة بحب المال فقط، بل في أوقات كثيرة كان للهروب وتغطية الفشل دور بارز، فالفضيحة المالية التي لحقت بشركة أوليمبوس اليابانية كانت من بين تلك القضايا التي ذهب فيها مجلس الإدارة بعيدا خلف إخفاء الخسائر التي ألمت باستثمارات الشركة في بدايات التسعينيات من القرن الماضي، ولقد تكررت المأساة في شركات كثيرة حول العالم، وأتذكر كيف كان لدينا عديد من المطالبات بتطوير هياكل الحوكمة وقواعدها، ومن ذلك تطوير هياكل المهن الرقابية من مثل مهنة المراجعة الخارجية والمراجعة الداخلية، في وقت كان هناك من يجادل بأن السوق السعودية محصنة تماما من مثل تلك القضايا المالية، لكن أثبتت الأحداث التي واجهتها شركات، مثل: شركة المعجل وموبايلي وغيرها، أنه لا توجد شركة محصنة تماما وأن التطوير أمر لازم، ولقد أحدثت التكنولوجيا وأنظمة الذكاء الاصطناعي تقدما مذهلا في ضبط كثير من التعاملات، ما حيد كثيرا من فرص الفساد، حيث تم كسر أحد أضلاعه الرئيسة، وهي الفرصة في ارتكاب الفساد، فلم تعد الفرص متوافرة بسهولة في ظل هذه التقنيات المتقدمة، لكن هل هذا صحيح مطلقا؟ أم أن هذه التقنيات قد منحتنا شعورا زائفا بالأمان.
إذا كانت انهيارات الكساد العالمي 1929 قد أثبتت فشل حوكمة الجمعيات العمومية، والحاجة إلى تطوير مراجعة خارجية، وإذا كانت انهيارات 2001 قد أثبتت فشل المراجعة الخارجية والحاجة إلى تطوير الحوكمة والمراجعة الداخلية، فإن الفشل الذريع الذي منيت به شركة مكاتب البريد البريطانية Post offices قد أثبتت فشل أنظمة التقنية، وأن الثقة فيها وهم زائف، وأنها بذاتها قد تكون مضللة، ما يفتح المجال على مصراعيه اليوم لتطبيقات كثيرة وقوانين ملزمة لمفاهيم إدارة المخاطر والتحولات منتظرة وقريبة. ولقد أحسنت صحيفة الاقتصادية عندما قدمت شرحا موجزا لتلك الفضيحة المالية لهذه الشركة التي كان النظام المحاسبي المطبق فيها هو سيد ذلك الفشل بلا منازع، إلا إذا عددنا الثقة المفرطة في التقنية ومقولة: إن الكمبيوتر لا يكذب، هي التي أسهمت في كل ذلك. وتتلخص أحداث تلك الفضيحة التي لم تزل تداعيات تدور في المحاكم البريطانية حتى اليوم، في أن شركة مكاتب البريد قد أطلقت 1999 مع شركة الكمبيوتر اليابانية فوجيتسو نظام "هورايزون" وتفاخرت به لأعوام كأحد "أكبر الإنجازات التقنية وأنظمة المعلومات غير عسكرية في أوروبا"، لكن ما كان مصدرا للفخر، تحول بعد 15 عاما إلى مصدر للخجل وفضيحة لن يغفرها المجتمع البريطاني فترة من الزمن، فقد قام النظام الذي يخطئ في نظر الجميع بإخفاء مبالغ لعدد كبير من العملاء في مختلف الجزيرة البريطانية، وبدأت الشكاوى تنهال على مكاتب الشركة من 2009 وبصورة متقطعة، ولم يكن لدى أحد تفسير مقبول لهذه الفجوات في التحويلات النقدية، إلا أن مديري الفروع قد قاموا باختلاسها، وعلى أساس نظرية الفساد الشهيرة رفعت الشركة قضايا على مديري الفروع في واحدة من أبشع حالات الظلم في التاريخ البريطاني كما وصفتها صحيفة "فاينانشيال تايمز" أخيرا، فلقد أدين أكثر من 700 موظف بتهمة السرقة والاحتيال والتلاعب المحاسبي فيما بين الأعوام من 2009 حتى 2014، وقد تعرض هؤلاء للإهانة بشكل مذل ومع فشلهم في إثبات براءتهم من الاختلاس والتلاعب، وأمام سيل شكاوى الناس، اضطر بعضهم لبيع ممتلكاته لتسديد الفروق، وبعضهم تم الحكم عليه بالسجن لعدة أعوام، ومن تمكن من السداد تحمل أعباء اجتماعية لمدد مختلفة، ثم فجأة تبين أن النظام هو الذي ارتكب كل هذه الجرائم، وتسبب في كل تلك الأحداث المأساوية، ورغم الشكوك التي ساورت البعض حول سلامة النظام خلال هذه الأزمة، إلا أن أحدا لم يكن قادرا على المجازفة والتقليل من شأن نظام كان مفخرة بريطانية كما وصف.
وبغض النظر عما واجهه المتهمين من مشكلات، فإن هذه القضية بكل تفاصيلها وفي هذا الوقت بالذات قد جاءت لتقدم لنا جميعا دروسا مهمة ليست أقل من الدروس التي جادت بها جائحة كورونا، ولا أقل أهمية من تلك التي ألهمت العالم في قضية إنرون، فالمخاطر كبيرة عند الاعتماد الزائف والثقة المفرطة في التقنية وقبول مخرجاتها كأنها أدلة لا يصل إليها الشك أبدا، فلقد وبخ القضاء البريطاني شركة المكاتب البريدية والشركة اليابانية على إصرارهم من أن نظام هورايزون معصوم من الخطأ وتجاهلهم فحص أدلة مخالفة، وهنا أعود وأكرر أن فخ الجودة والبحث الزائف خلف مفرداتها وتقنياتها يجب أن يتوقف، ويتم التركيز على إدارة المخاطر كركن أساس وتقبل حدوث الأخطاء من كل شيء تقريبا، وتطوير اختبارات الفحص والتأكد، وممارسة العصف الذهني مهما بدت مخرجاته بعيدة الحدوث، خاصة إذا كنا سنعتمد على مثل هذه التقنية في الربط الزكوي والضريبي وأنظمة السداد المرتبطة بالمالية العامة، فيجب توقع الأخطاء في كل مكان ويجب أخذ الاعتراضات بكل بصيرة. لقد كانت إحدى الممارسات الخاطئة التي تورطت فيها شركة مكاتب البريد البريطانية أنها قد منحت حق التحقيق والملاحقة القضائية، ما مكنها من تنفيذ هجوم عدواني لا رحمة فيه على كل المشتبهين، مستندة إلى فكرة خاطئة مفادها أن النظام التكنولوجي لا يخطئ، لكنه فعل.
إنشرها