Author

رأسمالية خاصة أم حكومية أم مشتركة؟

|
كبير الاقتصاديين في وزارة المالية سابقا
جوهر الرأسمالية اقتصاد السوق، أي: هيمنة الأفراد والقطاع الخاص على ملكية وسائل أو عناصر إنتاج؛ كرأس المال والعمل والأرض، لإنتاج سلع (ويدخل في معنى السلع الخدمات) بغرض الربح. السلع التي لا تحقق ربحا في طبيعتها تسند للقطاع العام. وهي ما تسمى بالسلع العامة، وسيأتي تعريفها لاحقا. لكن من الممكن للقطاع العام القيام بأعمال قابلة في ذاتها لتحقيق ربحية. التعليم والصحة الحكوميان مثالان شهيران.
من أين أتيت بالكلام السابق عن جوهر الرأسمالية؟ ليس من كتب أجدادنا، بل من مصادر غربية معتبرة مشهورة في معنى capitalism التي اشتهرت ترجمتها برأسمالية. ولذا فمن المنطق أن تكون المرجعية ما تقوله تلك المصادر، وليس ما نفهمه من كتب أجدادنا عن معنى رأس المال. هذه مسألة منهجية مهمة.
الرأسمالية بالمعنى السابق قديمة، لأن اقتصاد السوق قديم. وتبعا، فإن الاقتصاد في بلد تطبق الشريعة يعد رأسماليا بالتعريف السابق. لكن المسمى المترجم إلى رأسمالية ظهر واكتسب الزخم مع ظهور الثورة الصناعية قبل قرون قليلة. كان النظام الإقطاعي هو السائد في الغرب قبل ذلك. ويرى مؤرخون غربيون أن احتكاك الغرب بالمسلمين إبان ازدهار الحضارة الإسلامية كان له أثر كبير في تعريف الغرب بميزات اقتصاد السوق.
اقتصاد السوق يستلزم بداهة وجود قطاع خاص. ويمكن القول، وبشيء من التساهل: إن ما ينتجه القطاع الخاص (لحسابه) يعد سلعة خاصة، وما تنتجه الحكومات مباشرة أو غير مباشرة (تكليف من ينتجه لحسابها) يعد سلعة عامة. وتتسم السلعة العامة بأنها الأساس، فدونها لا يمكن للقطاع الخاص أن يعمل، بل لا يمكن للحضارة أن تبقى. والأمثلة على السلع العامة كثيرة، منها الأمن والعدل وحقوق الإنسان والاستقرار الاقتصادي والتنمية. عبارة سلعة عامة تعبير اقتصادي اصطلاحي. ولتسهيل الفهم على من لا يعرف معنى المصطلح، تتميز السلع العامة بميزتين: كونها غير قابلة للاستبعاد (يمكن للشخص أن يستفيد من السلعة دون أن يدفع، أو أن الدفع يأتي من المجتمع) وغير قابلة للانتقاص (استهلاك فرد من السلعة لا يقلل استهلاك غيره منها).
تلكما الميزتان زادتا بشدة مع الثورة الصناعية. وتبعا فإن دائرة السلع العامة وتدخلات الحكومات في النشاط الاقتصادي توسعت مع تطور المدنية، وبلغت في عصرنا أوسع دائرة. لكن دائرة السلع الخاصة ونشاط القطاع الخاص توسعت أيضا وبلغت في عصرنا أوسع دائرة. ويبدو هذا الكلام مثل اللغز.
توسع دائرة السلع العامة وتدخلات الحكومات ناتج من صور الفشل السوقي. وأهم أسباب هذا الفشل وجود الميزتين سابقتي الذكر أو إحداهما ولو جزئيا في السلعة، ككونها لا تقبل الاستبعاد.
وأثارت الأزمة الأزمات الاقتصادية العالمية وآخرها ما تسبب فيه فيروس كورونا، وأثارت مناقشات كثيفة على المستويات الأكاديمية والحكومية والإعلامية المختصة حول طبيعة فشل السوق والاقتصاد السوقي (الرأسمالية) في ضوء التطورات. وجر هذا النقاش إلى مزيد نقاش حول حدود التدخل الحكومي في أنشطة الاقتصاد.
في نظري، أن دائرة فشل السوق والسلع العامة في اقتصاد، كالاقتصاد السعودي، في أصلها واسعة، تتجاوز ما نراه في الدول ذات الاقتصادات المتطورة. وتقف عوامل عديدة خلف ذلك، على رأسها طبيعة البنية الاجتماعية والاقتصادية البسيطة جدا قبل اكتشاف النفط، وجاء النفط فقلب موازين، وتشكلت لدينا ما أسماه ولي العهد، بإدمان النفط. وهذا الإدمان له مظاهر، لا تخفى كقوة الاعتماد على الاستقدام والاستيراد والوظيفة الحكومية.
حاولت الدولة خلال عقود، وعبر أكثر من طريقة، تخفيف حدة هذه المظاهر وما يتبعها من مشكلات.. لكنه يغلب عليها جانب الدعم المالي، خاصة عبر قروض ميسرة من خلال صناديق، كصندوق الموارد البشرية وصندوق التنمية الصناعية وصندوق التنمية العقارية. نقطة الضعف أنه كان دعم معتمد على إيرادات النفط. هذه الإيرادات متقلبة كثيرا، خلاف قوة اعتماد مالية الدولة عليها. ومن نتائج ذلك، على سبيل المثال، أن الحصول على قرض صندوق التنمية العقارية يحتاج إلى انتظار لأعوام طويلة. لكن الرؤية جاءت لتضع تصورا قويا لتخفيف قوة هذه المشكلات.
هناك تدخلات حكومية من نوع آخر. ممارسة الدولة نشاطا تجاريا في أصله للقطاع الخاص. سابك والاتصالات والخطوط الجوية والحديدية أمثلة لهذا النوع من التدخل. هناك أسباب أدت إلى هذه الممارسة كونها أنشطة حديثة جدا على المجتمع، وتتطلب رؤوس أموال كبيرة جدا. وينتج من ذلك كون مخاطر الاستثمار فيها عالية في أعوام البداية خاصة. وهذا يعني استبعاد دخول القطاع الخاص بالصورة المنشودة.
هناك رأي ثالث تحت التطور وهو وجود شراكة بين القطاعين العام والخاص في أوجه استثمار ربحية متعددة. ويسهم في تقوية هذا الرأي أمران جوهريان: الأول تغير الظروف، بما يساعد على قيام الشراكة. والثاني كون ناتج الشراكة أصلح للبلاد والعباد مع الوقت.
وجود الشراكة لا بد أن يبنى على أسس، أهمها - في نظري - ما يلي:
التهيئة والاستعدادات المسبقة في الأهداف والأغراض. ووجود رؤية مشتركة بين القطاعين. ووضوح المسؤوليات والتبعات والمخاطر والمنافع لكل الأطراف. وبناء إجراءات شراكة واضحة مفهومة على أسس رشيدة. وقيام مفاوضات وتفاهمات حول كيفية وأساليب التعامل بعد تحقق الشراكة. وتفهم ممثلي كل طرف لما له وما عليه. وعن هذا الموضوع سيكون مقال الأسبوع المقبل بمشيئة الله.
إنشرها