بطاريات المستقبل .. حرب ضروس للاستقلال الذاتي وبكين تنقل المعركة إلى أوروبا

بطاريات المستقبل .. حرب ضروس للاستقلال الذاتي وبكين تنقل المعركة إلى أوروبا
لا يتعلق الصراع والمنافسة على الأرباح فقط وإنما يتعلق الأمر في جوهره بالاستقلال الذاتي.
بطاريات المستقبل .. حرب ضروس للاستقلال الذاتي وبكين تنقل المعركة إلى أوروبا
في الوقت الراهن يتم إنتاج أغلب البطاريات في آسيا وتحديدا الصين وكوريا الجنوبية واليابان.

لفترة طويلة من الوقت التزم الجميع الصمت أو تبنى تصريحات دبلوماسية بدعوى أهمية التعاون المثمر في مجال إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية. كل هذا توقف الآن تقريبا، ليزاح الستار عن حرب ضروس بين الأوروبيين والآسيويين والولايات المتحدة الأمريكية.
حرب تدور رحاها للسيطرة على الأسواق والهيمنة على تكنولوجيا الإنتاج، ومع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي ازدادت المنافسة حدة وضراوة، وازداد الوضع تعقيدا.
لا يتعلق الصراع والمنافسة بين أقطاب تلك الصناعة على الأرباح فقط، رغم أنها تقدر بمليارات الدولارات، إنما يتعلق الأمر في جوهره بالاستقلال الذاتي، ورغبة الجميع في احتلال قصب السبق لارتباط إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية بقضايا تتعلق بالأمن القومي الاقتصادي، إضافة إلى تعزيز الأعمال والوظائف.
البطاريات التي تشغل السيارات الكهربائية ويصل وزنها إلى 600 كيلو جرام تقريبا، تعد جزاء كبيرا من قيمة السيارات التي تعمل بالكهرباء. في الوقت الراهن، يتم إنتاج أغلبها في آسيا، وتحديدا الصين وكوريا الجنوبية واليابان، ولكن مع إعلان المفوضية الأوروبية نيتها حظر بيع السيارات الجديدة التي تعمل بالبنزين والديزل بحلول عام 2035، وتحديد جدول زمني للتحول للسيارات الكهربائية، تغير المشهد وبات الصراع واضحا وجليا للعيان.
ألمانيا بوصفها القائد الأوروبي في مجال صناعة السيارات، أعلنت عبر شركة ديملر لصناعة سيارات المرسيدس، أنها اعتبارا من عام 2025 ستطلق منصات للسيارات الكهربائية، وتستعد للتحول الكامل لإنتاج السيارات الكهربائية بدءا من عام 2030.
بالطبع، عند اتخاذ قرار استراتيجي بهذه الدرجة من الأهمية والخطورة، فمن غير المرجح أن يترك متخذ القرار أحد أكثر الأجزاء حيوية في صناعة السيارات الكهربائية في يد الخصوم والمنافسين، فإذا كانت أوروبا تنوي التحول للسيارات الكهربائية، فهذا يعني أنها ستحتاج إلى كثير من البطاريات.
تتضح رغبة الأوروبيين في إحداث تغير في التوازن الراهن في أسواق بطاريات السيارات الكهربائية، من خلال المبالغ المالية التي تم رصدها للاستثمار في هذا المجال، فوفقا لمنظمة النقل والبيئة، وهي منظمة غير حكومية، فإنه بعد أعوام من التقدم الأوروبي البطيء، توجد الآن خطط لاستثمار 40 مليار يورو في 38 مصنعا أوروبيا، بما يعني إمكانية إنتاج ألف جيجاواط ساعة من البطاريات سنويا، أي ما يكفي لتشغيل 16.7 مليون سيارة.
من جهته، قال لـ"الاقتصادية" المهندس جون مارتن استشاري الهندسة الكهربائية في شركة أستون مارتن البريطانية لصناعة السيارات، "بحلول عام 2030 سيكون 40 في المائة من جميع السيارات الجديدة المباعة في أوروبا كهربائية، لترتفع إلى 100 في المائة تقريبا بحلول عام 2040، ولذلك نحن في حاجة إلى كمية ضخمة من الخلايا".
ويضيف "السويد الآن تتحرك سريعا لتغطية احتياجات الأوروبيين، إذ يبنون مصنعا عملاقا للبطاريات الكهربائية في موقع يصل حجمه إلى 71 ملعبا لكرة القدم في شمال السويد، هذا المصنع بمفرده سيوفر ربع البطاريات الكهربائية في أوروبا، وسيبدأون في إنتاج ما يكفي من البطاريات لتشغيل 300 ألف سيارة كهربائية سنويا، مع إمكانية رفع هذا الرقم إلى مليون".
بالفعل، فإن الأرقام المتوافرة تشير إلى حصول المصنع على طلبيات بقيمة 14 مليار دولار من شركة فولكسفاجن الألمانية خلال العقد المقبل.
السويديون جزء من رؤية أوروبية متكاملة تسعى إلى الاستقلال الذاتي في مجال إنتاج البطاريات الكهربائية، وعدم الارتهان مستقبلا للصينيين، وبدرجة أقل لحلفائهم الأمريكيين.
مع هذا لا تزال لدى المهندسة جين أريك من شركة جاكوار البريطانية، شكوكا حول قدرة الأوروبيين في هذا المضمار.
وتؤكد لـ"الاقتصادية"، أنه ربما تسهم الجهود الأوروبية في تحول القارة إلى تكتل مهم في الفضاء التنافسي في مجال صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، لكنهم لن يكونوا قادرين على تلبية جميع احتياجاتهم الداخلية من بطاريات السيارات الكهربائية، ناهيك عن أن يكون لديهم القدرة على تلبية احتياجات الآخرين، ولذلك عليهم التحالف مع طرف آخر، سواء الآسيويين أو الأمريكيين أو مع المملكة المتحدة.
وحول أسباب عدم قدرة الأوروبيين على تحقيق الاكتفاء الذاتي، تشير إلى احتياج البطاريات كميات هائلة من مادة الليثيوم، وأوروبا لديها مصادر محلية في تشيك وألمانيا، لكنها لا تكفي، وستعتمد على الواردات، وهذا سيتطلب منها تطوير اتفاقيات توريد مع الأسواق التي توجد فيها مادة الليثيوم بوفرة، وعلاقات دبلوماسية مواتية، وأطرا استثمارية قوية، وهذا ليس بالأمر السهل في ظل المنافسة الراهنة بين الأوروبيين والصينيين والأمريكيين.
تدرك المملكة المتحدة الحاجة الملحة إلى أن يكون لها موقع جيد في هذا السباق المحموم لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية، خاصة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي من جانب، والخطى السريعة التي تتخذها لنشر السيارات الكهربائية بحظرها مبيعات السيارات التي تعمل بالديزل أو البنزين ابتدءا من عام 2030، من جانب آخر.
ونظرا إلى إدراكها أنها متخلفة قليلا عن جيرانها الأوروبيين في هذا السباق، فلم يكن أمامها غير رصد نحو مليار جنيه استرليني للإسراع في تطوير صناعة البطاريات الكهربائية المحلية، وما يرتبط بها من سلاسل توريد عالمية، لكن الأموال النقدية المرصودة والموعد النهائي للتخلي عن السيارات التقليدية، لا تنفي أن على بريطانيا تسريع الخطى للحاق بالاتحاد الأوروبي، ناهيك عن الصين.
من جانبه، قال لـ"الاقتصادية"، إل. دي جونسون رئيس قسم التسويق في شركة سيركلر البريطانية لإنتاج البطاريات، "دخلنا المنافسة متأخرين، نحتاج إلى مزيد من المصانع، كما أن الخروج من الاتحاد الأوروبي له تداعيات كبيرة في مجال إنتاج البطاريات الكهربائية، فمواصلة البيع للاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة، يتطلب منا أن نضمن أن السيارات الكهربائية والبطاريات التي ننتجها تلبي قواعد المنشأ، وهي قواعد صارمة".
وبالفعل، اقترحت المفوضية الأوروبية العام الماضي قوانين لضمان الإنتاج المستدام للبطاريات، ولم تتطابق بريطانيا مع تلك القوانين بعد.
مع هذا، يرى كثير من الخبراء أن المملكة المتحدة لديها الإمكانية المالية والمعرفة التكنولوجية والخبرات اللازمة لتحقيق موقع متقدم في تلك الصناعة، لكنها في حاجة إلى الاستثمار في سلاسل التوريد والتنسيق أكثر مع الأوروبيين، وهذا يتطلب استراتيجية واضحة لمساعدة الشركات الناشئة على النمو.
ويعي الأوروبيون والبريطانيون جيدا أنه محكوم عليهم، ولعقود مقبلة، مواصلة المواجهة الشرسة والعنيفة مع العلامات التجارية الآسيوية الكبرى، خاصة الصينية، في الوقت ذاته أدرك الصينيون أن الاندفاع الأوروبي والبريطاني في هذا المضمار، يتطلب منهم البحث عن استراتيجية جديدة للتعامل مع المتغيرات على الأرض، ومن ثم قرروا نقل المعركة إلى أراضي القارة الأوروبية والمملكة المتحدة.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية"، سافيل صامويل الخبير في مجال تسويق السيارات الكهربائية، "الصينيون ينشئون المزيد والمزيد من المصانع العملاقة لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية داخل بلدان الاتحاد الأوروبي، فشركة إل جي الصينية لصناعة البطاريات الإلكترونية لها مصنع الآن في بولندا، وعدد آخر من الشركات الصينية العاملة في المجال ذاته قامت ببناء مصانع في المجر".
ويضيف، "لديهم الخبرة والمعرفة الجيدة باحتياجات السوق الأوروبية، والأهم أنهم يمتلكون رأس المال، حيث إن مصانع إنتاج بطاريات السيارات الكهربائية كثيفة رأس المال".
هذا المخطط يضمن أن هيمنة الصين على السوق العالمية سيصعب تحديها، لأنها بفضل المصانع التي تشيدها في القارة الأوروبية وبريطانيا، توفر فرصا للعمل، وسيكون من الصعب على الأوروبيين أو البريطانيين تشييد مزيد من المصانع كبديل للمصانع الصينية، وزيادة معدلات البطالة في المجتمع، ولهذا تراهن الشركات الآسيوية على أن إنتاجها في القارة الأوروبية يعني انخفاض تكاليف الشحن بمقدار الربع تقريبا، ويعد ذلك عاملا مغريا لشركات السيارات الكهربائية الأوروبية للتعاقد مباشرة مع المصانع الصينية في أوروبا.
تخطط شركات صناعة السيارات العالمية لاستثمار ما لا يقل عن 90 مليار دولار في السيارات الكهربائية والبطاريات، التي تعد أغلى عنصر في السيارة الكهربائية، بهدف تمويل المئات من الطرز الجديدة على مدى الأعوام الخمسة المقبلة.
مع هذا، ترى الدكتورة ماري وات أستاذة التجارة الدولية في مدرسة لندن للتجارة، أن الصراع سيحسم لمصلحة المنتجين الآسيويين، وأن أوروبا وبريطانيا لن تستطيعا الفوز في هذا السباق في الوقت الراهن على الأقل.
وتؤكد لـ"الاقتصادية"، أن شركة عملاقة مثل بي إم دبليو الألمانية، أعلنت عدم مشاركتها في تحالف أوروبي لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية، بينما شركة فولكسفاجن تخطط للشراء من مصانع شركة إل جي الصينية الموجودة في بولندا، أما شركة ديملر المنتجة لسيارات المرسيدس، فمنحت شركة كاتل الصينية عقدا بهذا الشأن.
وتضيف "الأوروبيون والبريطانيون يقيدون أنفسهم بالحديث عن إنتاج البطاريات الخضراء باستخدام الطاقة المتجددة والمواد الخام ذات المصادر الأخلاقية، تلك القيود ترفع التكلفة وتؤهل الصينيين لاحتلال المقدمة".
لكن البعض يراهن على أن التكنولوجيا المقبلة لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية، ربما تصب في مصلحة الأوروبيين، فمن المحتمل أن يتم تجاوز بطاريات الليثيوم أيون المستخدمة الآن في غضون أعوام معدودة، من خلال ما يسمى تكنولوجيا الحالة الصلبة، التي يتوقع أن تنتج بطاريات أرخص مع كثافة طاقة أعلى، وسيوجد ذلك فرصا للاعبين جدد وإضافيين لدخول حلبة المنافسة، بما يمنح الشركات الأوروبية والبريطانية فرصة لتضييق الفجوة مع خصومهم الآسيويين واللحاق بالركب.
حتى الآن غاب الحديث عن الولايات المتحدة وموقعها في تلك المنافسة، وربما يعود ذلك إلى أنها تعد متراجعة مقارنة بآسيا وأوروبا في هذا المضمار، فبينما تمتلك الصين 93 مصنعا جيجا "مصطلح صاغه إيلون ماسك مؤسس شركة تسلا لوصف أول مصنع كبير الحجم لإنتاج خلايا بطارية ليثيوم أيون الكهربائية"، لا يزيد عدد المصانع في الولايات المتحدة عن أربعة فقط، وإذا استمر هذا الوضع، فإن الصين ستمتلك 130 مصنعا ضخما بحلول نهاية هذا العقد، مقابل عشرة في الولايات المتحدة.
ويحذر الباحث في الاقتصاد الأمريكي ستيفن ووالف من خطورة هذا الاتجاه على الولايات المتحدة.
ويؤكد لـ"الاقتصادية"، أن هذا الوضع سيترك الولايات المتحدة تعتمد على الصين وشركائها الآخرين للحصول على البطاريات، وهذا اقتراح محفوف بالمخاطر ليس فقط على صناع السيارات الكهربائية، ولكن على الجيش الأمريكي الذي يخطط لكهربة مزيد من مركباته ومعداته، وهذا يعني فقدان كثير من الوظائف التي يجلبها هذا القطاع.

الأكثر قراءة