اضطراب سلاسل التوريد يهدد نمو الاقتصاد العالمي ويغذي شبح التضخم
في أوائل شهر حزيران (يونيو) الماضي، اضطر عديد من شركات التكنولوجيا التايوانية الكبرى، التي تزود صناعة السيارات والإلكترونيات والأجهزة الطبية وغيرها من الصناعات الحيوية باحتياجاتها، إلى وقف أو خفض الإنتاج بعد تفشي حالات من الإصابة بفيروس كورونا.
نتج عن ذلك إجراءات طارئة اتخذها مركز القيادة المركزية للأوبئة لاحتواء انتشار الفيروس، في غضون أيام بدأ عديد من الشركات في طلب اختبارات كورونا من الآلاف الموظفين، حتى اليوم لا يزال الإنتاج مقيدا بسبب إجراءات الاختبار والحجر الصحي.
بصورة مشابهة لتايوان، ولكن ربما بدرجة أكثر حدة تكرر الوضع في فيتنام وبنجلادش. والآن تشهد الصين موجة جديدة من جائحة فيروس كورونا ظهرت في مدينة نانجينج، لتمتد إلى خمس مقاطعات، إضافة إلى العاصمة بكين. وبحسب المصادر الرسمية الصينية فإن هذه الموجة تعد الأسوأ منذ تفشي الوباء في ووهان أواخر 2019.
تلك الموجة الجديدة من الوباء، وعلى الرغم من عدم اتساع نطاقها بشكل كبير، ترافقت أيضا مع فيضانات غير مسبوقة، اجتاحت مناطق صناعية في العملاقين الاقتصاديين الصين وألمانيا، لتثير القلق بشأن تفاقم اضطرابات سلاسل التوريد العالمية.
جائحة كورونا والفيضانات، التي ضربت الصين، حدت من قدرة صناعة الفحم على نقل إنتاجها من مناطق التعدين إلى محطات الطاقة ليتقلص إنتاج الطاقة في فصل الصيف، حيث يبلغ الطلب أعلى معدلاته، أما في ألمانيا، فإن الفيضانات المدمرة كانت كفيلة بإبطاء النقل البري للبضائع، وارتفاع حجم الشحنات المتأخرة 15 في المائة.
جميع تلك العوامل، إضافة إلى تشابك سلاسل التوريد على المستوى العالمي، يجعل المشهد الاقتصادي الدولي أكثر تعقيدا وإثارة للقلق من الآن حتى الربع الأول من العام المقبل.
ولا يخفي الخبراء خشيتهم من تزايد تعقيد قضية سلاسل التوريد، نتيجة الدور، الذي يقوم به اقتصاد الولايات المتحدة والصين في منظومة الاقتصاد والتجارة الدوليين. فالاقتصادان يمثلان معا أكثر من 40 في المائة من الناتج الاقتصادي العالمي، وقد يؤدي ارتباك سلاسل التوريد لديهما إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، إلى جانب ارتفاع أسعار جميع أنواع السلع والمواد الخام.
وتشير الأرقام الأمريكية الصادرة أخيرا، إلى احتمال متزايد بأن النمو الاقتصادي للولايات المتحدة سيتباطأ في النصف الأخير من هذا العام، بعد الربع الثاني، الذي حقق أرقاما إيجابية بفضل الجهود المكثفة والناجحة لجهود التطعيم، وتعود تلك التوقعات السلبية إلى تزايد الضغوط، التي تتعرض لها سلاسل التوريد في الولايات المتحدة.
ولا شك أن الحديث المتواتر عن اضطراب في أوضاع سلاسل التوريد الدولية، يترك تجارة التجزئة في حالة ارتباك، وسط قلق مكتوم حتى الآن من احتمال عودة مشاهد الأرفف الفارغة في المحال التجارية الكبرى بالاقتصادات المتقدمة والناشئة إلى الصورة من جديد، خاصة مع قرب عودة المدارس في كثير من دول العالم، وما يرافق تلك العودة من زيادة التسوق.
بطبيعة الحال يعد الاضطراب في سلاسل التوريد أمرا مقلقا لعديد من الأسباب.
يقول لـ"الاقتصادية" تشارلي جيمس من الغرفة الدولية للملاحة، "اضطراب سلاسل التوريد هذه المرة ستكون عواقبه أشد قسوة على الاقتصاد العالمي، مقارنة بما حدث في النصف الأول من العام الماضي، عندما بدأ الوباء في التفشى عالميا، فعندما اجتاح الوباء أوروبا والولايات المتحدة وعديدا من الاقتصادات الناشئة، كان لدى الحكومات مخزون احتياطي من جميع أنواع السلع الاستراتيجية تقريبا، وقد استخدم جزء كبير من هذا المخزون لمد الأسواق باحتياجاتها، والتغلب عن الاضطرابات، التي حدثت في عمليات الشحن والتوقف المفاجئ للمصانع في الصين وآسيا عن الإنتاج، وعلى الرغم من ذلك كان هناك أرفف فارغة في كثير من المحال التجارية في الاقتصادات المتقدمة".
ويضيف "الآن لا يتوافر لدى كثير من الحكومات كميات كافية من المخزون من السلع الاستراتيجية، حيث إنه لم يكن لديها، وقت كاف لإعادة ملء مخازنها، فحتى قبل الموجة الأخيرة من تفشي فيروس كورونا في تايوان وفيتنام وبنجلادش والصين مجددا، كان هناك اضطراب في سلاسل التوريد، ولم تعد معظم الصناعات في البلدان الآسيوية لطاقاتها الإنتاجية الكاملة".
من جهتها، تعرب الدكتورة مارجريت كوهين أستاذة التجارة الدولية في جامعة درهام، عن مخاوفها من أن يؤدي اضطراب سلاسل التوريد مرة أخرى نتيجة الموجة الجديدة من تفشي الفيروس إلى ارتفاع حاد في معدلات التضخم العالمي.
وتقول لـ"الاقتصادية"، إن "التأخيرات المزمنة في عمليات الشحن تعمل على تغذية معدل التضخم، ويجب أن نأخذ هذا في السياق المتعلق بوضع السيولة المالية على المستوى الدولي، فخلال العام الماضي تم ضخ نحو 15 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي، للتغلب على العواقب الاقتصادية الوخيمة لسياسات الإغلاق، وبصفة عامة انخفضت معدلات الاستهلاك في فترة الجائحة، وتراكمت المدخرات نتيجة لتقلص الاستهلاك العام، الآن نشهد بداية ارتفاع في معدلات التضخم على المستوى الدولي".
وتضيف "على الرغم من أن الأمر لا يزال تحت السيطرة، فإن تعليقات بعض محافظي البنوك المركزية تظهر عدم ارتياح من الاتجاه الحالي للتضخم، لكنهم يتوقعون السيطرة عليه إذا ما عادت سلاسل التوريد للعمل بكفاءة موازية لما كان عليه الوضع قبل ظهور الفيروس، الآن يعاود فيروس كورونا الانتشار ويضرب مجددا وتضطرب معه سلاسل الإمداد مرة أخرى، ما يعني نقص المعروض من السلع في ظل وفرة مالية لدى المستهلكين، ما قد ينبئ بارتفاع كبير في الأسعار خلال الفترة المقبلة".
وبالفعل فقد أشار عدد من الاقتصاديين في الإدارة الأمريكية إلى أن الانقطاعات في توريد أشباه الموصلات ومواد بناء المنازل أسهما في تحقيق أعلى معدل تضخم منذ 13 عاما، وقد وقع الرئيس جو بايدن في شهر تموز (يوليو) أمرا تنفيذيا مصمما لزيادة المنافسة وخفض الأسعار في أسواق السكك الحديدية للشحن، في مسعى للسيطرة على التضخم، لكن تأثيره لم يكن ملحوظا.
لا شك أن إحدى السمات المميزة لعصر العولمة الاعتماد على مجموعة معقدة من روابط سلاسل القيمة العالمية، التي تربط المنتجين عبر بلدان متعددة، وغالبا ما يستخدم المنتجون سلعا وسيطة، سواء كانت مواد خاما أو سلعا عالية التخصص أو مدخلات ينتجها موردون خارجيون، لتطوير المنتج للوصول به إلى شكله النهائي، ويوجد هذا الترابط بما يعرف بسلاسل التوريد، لكن التطورات التي شهدها الاقتصاد العالمي العام الماضي، تضافرت لدفع سلاسل التوريد العالمية إلى حافة الانهيار، لتهدد التدفق الراهن للمواد الخام وقطع الغيار والسلع الاستهلاكية، ولتكشف أحد أبرز جوانب الهشاشة في التجارة الدولية.
وكانت وكالة "رويترز" للأنباء قد نشرت أخيرا تقريرا جاء فيه "أن الموانئ في جميع أنحاء العالم تعاني أنواعا مختلفة من الاختناقات التي لم نشهدها منذ عقود".
نتيجة لذلك تتصاعد الآن أصوات ذات تأثير في صناعة القرار الاقتصادي على المستوى العالمي، للمطالبة بوقفة حاسمة لإعادة النظر فيما يعده بعضهم تأثيرات سلبية للإغلاقات المتكررة في آسيا والصين تحديدا على الاقتصاد الدولي، فهيمنة آسيا المفرطة في مجالات التصنيع الرئيسة، يعد سببا رئيسا من وجهة نظر بعضهم في حال الارتباك التي اجتاحت سلاسل التوريد أخيرا ومعها الاقتصاد العالمي.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية" البروفيسور لويس ويلسون الاستشاري السابق في البنك الدولي، "كشف وباء كورونا عن نقاط الضعف في سلاسل التوريد الدولية المعقدة، وعندما يغلق المصنعون في القارة الآسيوية مصانعهم، يكافح المصنعون والمستهلكون في أماكن أخرى في العالم بسبب الافتقار إلى المرونة في قاعدة مورديهم، إحدى النتائج المحتملة في المستقبل أن الشركات العالمية ستنوع سلاسل التوريد الخاصة بها، وبدلا من الاعتماد شبه الحصري على المصانع الآسيوية، ستتنوع القاعدة الإنتاجية دوليا وسيستفيد من ذلك بلدان الشرق الأوسط وإفريقيا لقربها من القارة الأوروبية".
ويرجح البروفيسور لويس ويلسون بظهور حالة من "اللا مركزية" في العملية التصنيعية مستقبلا، وعودة بعض الصناعات الحيوية إلى أوطانها، خاصة أن الأتمتة والذكاء الصناعي يسهمان على الأمد الطويل في خفض التكاليف، حيث إنها أحد المبررات الأساسية لنقل عديد من الشركات الدولية لمصانعها إلى الخارج وتحديدا إلى آسيا.