فيتنام .. نمر آسيوي يتحول من الفقر إلى النمو القوي

فيتنام .. نمر آسيوي يتحول من الفقر إلى النمو القوي

فيتنام .. نمر آسيوي يتحول من الفقر إلى النمو القوي
خلال النصف الأول قدرت الاستثمارات الأجنبية بـ15.27 مليار دولار.

في مذكرات الجنود والضباط الأمريكيين، الذين قاتلوا في فيتنام، ستجد دائما وصفا لطبيعة تحرك المقاتلين الفيتناميين، عبر القول إنهم يتسللون بهدوء وخفة وحذر شديد، دون أن تعرقلهم الأشجار الكثيفة للغابات والدروب الوعرة لجبالهم، ودون أن تسمع لهم صوتا، أو تشاهد ما يدل على حركاتهم ووجودهم، لتفاجئ ودون سابق إنذار بأنهم باتوا أمامك وجها لوجه.
بتلك الاستراتيجية ذاتها ودون ضوضاء، الدولة التي يقترب عدد سكانها من 100 مليون نسمة، التي خاضت حروبا لأعوام طويلة بعضها كان مع فرنسا وأخرى مع الولايات المتحدة، إضافة إلى معارك عنيفة مع الصين، التي كان يضرب بها المثل في آسيا باعتبار أن فقرها لا يقل عن فقر الدول الإفريقية، تحقق معدلات نمو تدفع ببعض الخبراء إلى التساؤل هل "تتحول فيتنام يوما ما إلى مصنع العالم بدلا من الصين؟".
بغض النظر عن واقعية هذا التساؤل وإمكانية تحقيقه من عدمه، فإن معدلات النمو التي يحققها الاقتصاد الفيتنامي حتى في ظل التحديات الناجمة عن وباء كورونا تكشف عن أداء اقتصادي مميز. فوباء كورونا لم يحول دون أن يحقق الاقتصاد الفيتنامي معدل نمو بلغ 5.64 في المائة خلال الأشهر الستة من هذا العام.
وهذا المعدل أعلى بكثير من 1.82 في المائة المسجل في الفترة نفسها من العام الماضي، وعلى الرغم من ذلك، فإن ما تم تحقيقه لا يزال أقل من المعدل، الذي كانت الحكومة الفيتنامية تستهدفه 5.8 في المائة، وخلال النصف الأول من هذا العام قدرت الاستثمارات الأجنبية بـ15.27 مليار دولار من ضمنها 9.24 مليار دولار استثمارات أجنبية مباشرة، في مقدمتها سنغافورة واليابان وكوريا الجنوبية.
من الواضح أن انفتاح فيتنام على الاقتصاد العالمي يؤتي ثماره، حيث أفلحت بشكل ملموس في الاستفادة من موقعها الجغرافي المتاخم للصين، وكذلك من سعي الشركات الدولية في البحث عن بدائل منخفضة التكلفة في ظل ارتفاع أجور الأيدي العاملة في الصين.
كما بدأت السياسات، التي تبنتها في تسعينيات القرن الماضي من تبسيط القواعد التجارية، في تحقيق المرجو منها، إذ تمثل التجارة الآن نحو 150 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتلك المعدلات أعلى من أي دولة أخرى عند مستوى الدخل ذاته.
كما اتخذت قرارات حررت بمقتضاها حركة المستثمر الأجنبي مثل عدم إجبار الأجانب على شراء المدخلات المحلية، بحيث تكالبت الشركات الدولية على فيتنام لتنتج تلك الشركات حاليا نحو ثلثي الصادرات، أضف إلى ذلك توقيع فيتنام أكثر من 12 اتفاقية تجارية مع عديد من الدول في الأعوام الأخيرة.
يقول لـ"الاقتصادية" "إل. جي. ريتشارد" الاستشاري في البنك الآسيوي، "لا شك أن فيتنام نجحت بفضل سياستها الاقتصادية في تحقيق معدلات نمو جاذبة للاستثمار الأجنبي، وذلك على الرغم من أنها تفتقر إلى مزايا اقتصاد بحجم قارة، كما هو الحال في الصين والهند، ولذلك تصلح فيتنام نموذجا لعديد من الاقتصادات النامية".
ويضيف "المرونة الاقتصادية المتحالفة مع الانفتاح الاقتصادي عادت بنتائج إيجابية للغاية على البلاد، وقد شجعت السلطات المنافسة بين مقاطعاتها البالغ عددها 63 مقاطعة، والنتيجة أن المدن المتاخمة للصين جذبت المصنعين، الذين يريدون مغادرة الصين لارتفاع التكلفة الإنتاجية، أو الشركات، التي أرادت نقل عملياتها من الصين خلال الحرب التجارية، التي قادها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، ومدن الجنوب أنشأت مجمعات صناعية، ومدن أخرى تخصصت في الجانب التقني، والنتيجة أن فيتنام بات لديها اقتصاد متنوع قادر على تحمل الصدمات، وهذا ما ساعدها عندما تفشى وباء كورونا في البلاد".
ومن المتوقع أن تواصل فيتنام اتباع سياستها النقدية، التي تعمل على خفض تكاليف الاقتراض للشركات، وتعزز النمو الاقتصادي مع إبقاء التضخم تحت السيطرة، وتهدف الحكومة بتلك السياسات إلى التأكد من ضمن بقاء فيتنام ضمن الاقتصادات الأسرع نموا في العالم.
ومن الواضح حاليا أن قادة الحزب الشيوعي الفيتنامي باتوا أكثر إدراكا أن الحفاظ على معدلات النمو المحققة يتطلب التخلي عن الجزء الأكبر من سيطرة الدولة على الاقتصاد، وإتاحة فرصة أكبر للقطاع الخاص لتحقيق النمو والإنتاجية السريعة، على أمل أن يمثل القطاع الخاص نصف اقتصاد البلاد بحلول 2025، مقابل 42 في المائة في الوقت الراهن.
بدوره، الاستشاري في وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني كامبل لويس يرى أن الاقتصاد الفيتنامي سيلعب خلال العقد المقبل دورا متزايدا في سلاسل التوريد العالمي.
ويؤكد لـ"الاقتصادية" أن الحكومة الفيتنامية تخطط لأن يكون لديها بحلول منتصف هذا العقد 1.5 مليون شركة خاصة مقابل 700 ألف حاليا، على أن يزيد عدد الشركات الخاصة إلى مليوني أي ما يراوح بين 60 و65 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2030، وأن يرتفع متوسط دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 2750 دولارا العام الماضي إلى ما يراوح بين 4700 و5000 عام 2025.
ويشير كامبل لويس إلى أن الاقتصاد الفيتنامي كان واحدا من الاقتصادات القليلة في العالم، التي لم تنكمش نتيجة جائحة كورونا، ومع إدراك وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني أن الاقتصاد الفيتنامي سيستفيد من التحويلات العالمية في الإنتاج والتجارة والاستهلاك بعد الوباء، فقد رفعت توقعاتها للاقتصاد الفيتنامي من سلبية إلى إيجابية.
تلك النجاحات دفعت الفيتناميين إلى بلورة استراتيجية طموحة للتحول الرقمي الواسع للبلاد، عبر خطة ترمي إلى بناء عشر شركات عملاقة تقدر قيمة كل منها بأكثر من مليار دولار أمريكي بحلول 2030، بهدف دمج ما لا يقل عن 10 في المائة من الاقتصاد الرقمي في جميع القطاعات الاقتصادية، وأن يكون لدى 80 في المائة من الأسر إمكانية الوصول إلى الإنترنت.
وفي الحقيقة، فإن أغلب شركات التكنولوجيا العالمية مثل جوجل تتنبأ بأن الاقتصاد الرقمي الفيتنامي يمكن أن ينمو إلى 52 مليار دولار بحلول 2025، أي ما يعادل سدس إجمالي الاقتصاد الرقمي في منطقة جنوب شرق آسيا، التي ستبلغ 300 مليار دولار في منتصف العقد الراهن.
ولا شك أن نمو التجارة الإلكترونية في فيتنام سيوفر فرصا متعددة للمستثمرين ورجال الأعمال والشركات الناشئة لاستكشاف آفاق اقتصادية جديدة، خاصة أن أغلبية السكان لا يزالون لم يطوروا ثقافة بنكية ولا يوجد لديهم حسابات بنكية، ما يجعل الخدمات المالية الرقمية خيارا جذابا، سواء للقروض أو المدفوعات.
تلك النجاحات وعلى الرغم من جاذبيتها، فإنها لا تنفي أن قبضة الدولة على الحياة الاقتصادية لا تزال تعوق إلى حد كبير إطلاق القوة الاقتصادية في المجتمع، خاصة مع غياب الشفافية الاقتصادية نتيجة المركزية.
كما أن القطاع المالي لا يزال يعاني ضعفا شديدا، خاصة في ظل افتقاد الحرية أو المرونة الكافية، وعلى الرغم من ضخ الدولة لاستثمارات مكثفة في قطاع التعليم خاصة لصغار السن، فإن استثمارات التعليم والبنية التحتية لا تزال في حاجة إلى مزيد من الاهتمام.

الأكثر قراءة