Author

عدالة توزيع الدخل تدعم النمو

|
جرى الاعتقاد سابقا بأن تباين الدخل وتراجع عدالة توزيعه تدعمان مسيرة النمو الاقتصادي. وبني هذا الرأي على أساس ميل مرتفعي الدخل وجامعي الثروات للادخار بنسب أكبر من متوسطي ومنخفضي الدخل، ما يرفع معدلات الاستثمار المحفز للنمو. ويدعم تراجع الأجور في بداية النهضة الاقتصادية، تركز الثروات وقد يرفع معدلات الاستثمار إذا لم تتسرب الثروات إلى خارج الدول. ولو كان هذا التصور سليما طول الوقت لكان لزاما نمو الدول الأقل عدالة في توزيع الدخل والثروة أسرع من غيرها. لكن تجارب الدول لم تثبت على الأمد الطويل انسجام ذلك مع الواقع، بل أثبتت تحقيق الدول الأكثر عدالة في توزيع الدخل معدلات نمو أفضل من الدول الأقل عدالة. وتؤيد التحليلات النظرية ظهور التأثير السلبي لانخفاض عدالة توزيع الدخل وتأثيره في معدلات النمو الاقتصادي قصيرة وطويلة الأجل.
قاد التطور التقني خلال العقود الأخيرة وازدياد تعقيد الصناعات المختلفة إلى رفع أهمية رأس المالي البشري "تنمية الموارد البشرية"، مقارنة برأس المال المادي. وقد أصبح رأس المال البشري هذه الأيام المحرك الأهم للنمو والتنمية وليس رأس المال المادي. ولا يمكن تعظيم العوائد على رأس المال المادي إلا من خلال الموارد البشرية الكفؤة المتعلمة والمدربة عالية الإنتاجية. وتستثمر الدول المتقدمة وسكانها موارد هائلة في تنمية الموارد البشرية وتهيئتها للعمل تفوق رؤوس الأموال المادية حتى الموارد الطبيعية. ويأتي التأثير الإيجابي لعدالة توزيع الدخل من خلال تمكين شرائح سكانية أكثر من الحصول على مستويات تعليم أعلى وتدريب وخبرات أفضل. إضافة إلى ذلك ترفع عدالة توزيع الدخل، خصوصا أذا كانت مقرونة بنضج الأسواق المالية، فرصا توفر الائتمان لعدد أكبر من رواد الأعمال، ما يدعم ولادة الأعمال الجديدة والاستثمار ويعزز معدلات النمو الاقتصادي.
تشهد بداية مراحل التنمية حاجة منخفضة إلى العمالة الماهرة، حيث تكون القطاعات الإنتاجية بدائية تنخفض فيها نسب القيمة المضافة والأجور. ومع مرور الوقت وتطور الاقتصاد تزداد حاجة القطاعات الإنتاجية للأيادي الماهرة، ما يرفع العوائد على التعليم والتدريب والخبرات. وتدعم عدالة توزيع الدخل من فرص التعليم والتدريب لحصول شريحة أكبر من السكان على موارد أعلى يمكن إنفاقها على تطوير مهاراتهم. وتعزز الأيادي العاملة الماهرة الإنتاجية في الاقتصاد وترفع بالتالي معدلات النمو المستدام.
قد تتقبل المجتمعات اختلال عدالة توزيع الدخل لفترة محدودة من الزمن إما لتأخر إدراك شريحة كبيرة من السكان لذلك، أو لعدم تأثر معيشتهم بها لفترة وجيزة، لكن تردي عدالة توزيع الدخل لفترة طويلة وتعمقها في المجتمع تقود إلى امتعاض الشرائح السكانية المتأثرة سلبا. وهذا قد يولد حساسيات وتوترات بين الشرائح السكانية ويرفع المخاطر المهددة للسلام الاجتماعي. ويعد الاستقرار السياسي والاجتماعي شرطا أساسيا للنمو الاقتصادي لكنه ليس كافيا في حد ذاته.
تراجع عدالة توزيع الدخل قد يكون عائدا لعوامل غير مقبولة ومثيرة لحنق طائفة من السكان أو معظم السكان ومهددة للسلام الاجتماعي. وتأتي الاحتكارات الاقتصادية سواء في إنتاج المواد الأولية، أو القطاعات الصناعية أو الخدمية، أو الامتيازات الحكومية، أو المزايا الممنوحة لعدد محدود من الناس والمحابية لهم كأمثلة على ذلك. وتزداد حساسيات تراجع عدالة توزيع الدخل والثروة إذا كان منشؤها الفساد في تخصيص وإنفاق الموارد العامة. وقد يكون للتمييز أو الأنظمة الضريبية المحابية لأصحاب الثروات ومراكز القوى دور في تعميق تراجع عدالة توزيع الدخل. ولا يمكن للعوامل السابقة أن تسهم في رفع معدلات النمو المستدام، بل تعد مثبطات للكفاءة في استخدام الموارد ومخفضة لمعدلات النمو الاقتصادي.
تظهر تجارب دول العالم أن الاقتصادات الأكثر عدالة في توزيع الموارد الطبيعية والأراضي، نشرت التعليم وعممته في وقت مبكر على سكانها ونجحت في تطوير مهاراتهم بشكل أفضل من الاقتصادات الأقل عدالة. وقد ساعد هذا على نهوض الصناعات الأكثر طلبا للمهارات ورفعا للأجور والنمو الاقتصادي ومعدلات الدخل. من جهة أخرى يرفع التوزيع الأكثر عدالة للدخول من قدرات الشرائح السكانية العاملة التي تنفق الجزء الأكبر من أجورها على الاستهلاك. ويعزز هذا بشكل كبير الطلب على السلع والخدمات ويحفز النمو الاقتصادي، خصوصا في الاقتصادات الكبيرة.
يذهب عديد من المحليين إلى أن تراجع عدالة توزيع الدخل منذ بداية السبعينيات في الدول المتقدمة مسؤول بدرجة كبيرة عن انخفاض معدلات النمو الاقتصادي في هذه الدول. ويبررون هذا الاستنتاج بميل الشرائح الغنية والأعلى دخلا إلى اكتناز جزء أكبر من دخولهم بدلا من إنفاقها، بينما تميل الشرائح السكانية الأقل دخلا إلى إنفاق أجزاء أكبر من دخولها. ويرى بعض المختصين أن تراجع عدالة توزيع الدخل منذ السبعينيات في دول كالولايات المتحدة بدا وكأنه تحويلات من منخفضي الدخل إلى مرتفعي الدخل، حيث ارتفعت دخول الشرائح السكانية الأقل حظا بمعدلات تقل عن نمو الإنتاجية. وعموما تظهر تجارب الدول والشواهد العلمية أهمية تبني سياسات محسنة لعدالة توزيع الدخل، وذلك لتعزيز مسيرة النمو الاقتصادي المستدام الشامل للشرائح السكانية منخفضة ومتوسطة الدخل والمحسن لمعيشتها.
إنشرها