Author

نشأة الإنترنت .. شراكات في ابتكار مستدام

|
لم تعد كلمة الإنترنت Internet تنتمي إلى اللغة الإنجليزية فقط، بل باتت كلمة تبنتها لغات العالم بأسره. معنى الإنترنت هو شبكة الشبكات، لأنها الشبكة التي استطاعت ضم جميع شبكات الاتصالات حول العالم، الواسعة منها والمحلية، والسلكية منها واللاسلكية، وذلك ضمن شبكة واحدة تسمح بالتواصل وتبادل المعلومات بين جميع الناس. كما استطاعت أيضا أن تستوعب خدمات معلوماتية عديدة في مختلف المجالات، لتتيحها عبر شبكاتها لكل إنسان، أينما كان، سواء كان متنقلا متغير المكان، أو كان ثابتا في مكتبه، أو منزله، أو في أي مكان آخر. بذلك أطلقت الإنترنت عالمها السيبراني الذي بات وسيلة رئيسة لتنفيذ النشاطات المعلوماتية المهنية منها والاجتماعية، بفاعلية أكبر، وكفاءة أفضل، ورشاقة أعلى.
ينظر إلى الإنترنت على أنها الإنجاز الأهم للحضارة الإنسانية في القرن الـ 20، بل والأكثر تأثيرا أيضا في حياة الإنسان أينما كان. ويتميز هذا التأثير بالاستدامة والتطور المستمر المواكب لتقدم التقنيات التي تستند إليها، وللتوسع في تطبيقات هذه التقنيات. فالإنترنت مزيج من تقنيات الاتصالات التي بدأت في أواسط القرن الـ 19، وتقنيات الحاسوب التي انطلقت في أواسط القرن الـ 20، إضافة إلى تقنيات البرمجيات وخدماتها التي مكنت هذه التقنيات الإلكترونية في تكوينها، من العمل معا، ومن تقديم خدمات معلوماتية، عبر إجراءات ذكية، تزداد ذكاء، في الوقت الحاضر، مع تقدم معطيات الذكاء الاصطناعي.
تستحق قصة نشأة الإنترنت أن تروى، ليس فقط بسبب مدى أهميتها وحجم تأثيرها، بل لأنها أيضا مثال مهم للشراكة الفاعلة التي أنجبت ابتكارا مستداما يفخر به تاريخ القرن الـ 20، ويستند إليه تطور القرن الـ 21 في كثير من تطلعاته المستقبلية. شهدت نشأة الإنترنت إسهامات من جهات متعددة، شملت: جهات داعمة تابعت ورعت تطورها، وأفرادا من أصحاب الرؤى المستقبلية، ومن علماء شبكات الاتصال، وبرمجيات نظم الشبكات، وبرمجيات الإنترنت وتطبيقاتها وخدماتها، إضافة إلى شركات تقنية تنفيذية تسعى إلى تحويل الأفكار والإبداعات العالمية إلى واقع ملموس.
في مطلع الستينيات من القرن الـ 20 كانت الجهة الداعمة الرئيسة لتطوير شبكات تربط بين الحواسيب، هي وكالة المشاريع البحثية المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية ARPA. وكانت غايتها من هذا الدعم هي تحقيق تفوق أمريكا في مجال شبكات الحواسيب، لأن هذه الشبكات تعطي أداء متميزا، في التعامل مع المعلومات، في مختلف المجالات، سواء العسكرية منها أو غير العسكرية. وقد شهدت هذه الفترة ثلاثة أحداث مهمة.
جاء الحدث الأول عام 1961، حيث اقترح ليونارد كلاينروك Leonard Kleinrock، أحد منسوبي معهد ماساشوستس MIT، أسلوبا تقنيا جديدا للشراكة في نقل البيانات، هو أسلوب تبديل الرزم Packet Switching، كي يكون بديلا لأسلوب تبديل الدوائر Circuit Switching، المصمم للمكالمات في الشبكات الهاتفية، والمستخدم في نقل البيانات في ذلك الوقت. وقد تم تنفيذ هذا الأسلوب الجديد بنجاح عام 1968، بدعم من وكالة ARPA على يد فريق تقني مهني يدعى فريق BBN.
تمثل الحدث الثاني في رؤية طموحة طرحها جوزف ليكلايتر Joseph Lickliter عام 1962، وهو أيضا أحد منسوبي معهد ماساشوستس MIT، وتدعو هذه الفكرة إلى بناء شبكة عالمية Galactic Network كشبكة الإنترنت الحالية. وقد تم تعيين ليكلايتر أول رئيس لبرنامج بحوث الحاسب في وكالة ARPA، ربما على أساس هذه الرؤية. أما الحدث الثالث، فجاء عام 1965، حيث استطاع لاري روبرتس Larry Roberts بالتعاون مع توماس ميريل Thomas Merrill ربط حاسوبين كبيرين يقع أحدهما في ماساشوستس شرق أمريكا والآخر في كاليفورنيا غربها، لتظهر بذلك أول شبكة حاسوبية.
في عام 1969، تم بناء أول شبكة تابعة لوكالة ARPA، وكانت مكونة من أربعة مراكز حاسوبية متباعدة، وتستخدم أسلوب تبديل الرزم. وفي العام التالي 1970، أنجزت مجموعة تابعة لهذه الوكالة، أول نظام لعمل الشبكة والتحكم بها. لكن هذا النظام خضع، بدءا من عام 1972، للتطوير تحت إدارة كل من روبرت كان Robert Kahn منسوب الوكالة، وفينت سيرف Vint Cerf من جامعة ستانفورد، وبات هناك نظام جديد يعرف ببروتوكول التحكم بالإرسال / بروتوكول الإنترنت TCP/IP. وقد تم التحول إليه في اليوم الأول من عام 1983، وهو اليوم الذي بات يعرف بيوم العلم Flag Day. وقد ترافق ذلك مع تصميم نظام هرمي لأسماء نطاقات مواقع الشبكة DNS، حيث قام بذلك فريق عمل من جامعة جنوب كاليفورنيا - معهد علوم المعلومات USC-ISI، يقوده بول موكابيترس Paul Mockapetris.
ولم تكن الشركات الخاصة بعيدة عن الموضوع، فابتداء من مطلع الثمانينيات، بنت هذه الشركات شبكات خاصة بها مثل شركة IBM التي بنت شبكة بيتنت BITNET في أمريكا، وشبكة إيرن EARN في أوروبا، وشبكة الخليج GULFNET في السعودية ودول الخليج الأخرى. وسلكت مؤسسات علمية أمريكية سلوكا مشابها في إقامة شبكات حواسيب خاصة بها مثل شبكة علوم الحاسوب CSNET التي رعتها المؤسسة الوطنية للعلوم NSF. وفي مطلع التسعينيات من القرن الـ 20، اندمجت جميع هذه الشبكات مع شبكة ARPA مكونة الإنترنت Internet التي باتت متاحة للجميع.
جاء إنجاز تمكين خدمات الإنترنت عبر ما يعرف بالعنكبوت العالمي WWW من أوروبا، وبالذات من تيم برنرز لي Tim Berners Lee الذي كان يعمل خبيرا في قواعد البيانات Databases لدى المنظمة الأوروبية للبحوث النووية CERN. وقد اندمج إنجازه، في مطلع التسعينيات، مع الإنترنت، ليستمتع الجميع بخدمات معلوماتية فاعلة انتشرت سريعا على نطاق واسع. وتشهد خدمات الإنترنت قفزات واسعة منذ بداية القرن الـ 21، ومزيدا قادما في المستقبل يقود الذكاء الاصطناعي.
هذه هي قصة نشأة الإنترنت شراكات في ابتكار مستدام منفتح على الجميع بغير حدود. لم تأت الإنترنت من مبتكر واحد، بل من مبتكرين. ولم ترعها جهة واحدة، بل جهات عدة. ولا تعتمد في رسم مستقبلها على فكرة واحدة، بل على أفكار متجددة، منها ما هو منظور، ومنها ما يقبع في خبايا المستقبل، وآفاقه الواسعة.
إنشرها