default Author

ما تحت الصوت

|
همس ينبع من داخلك، يناجيك، يحاورك، أحيانا تبتسم من حديثه، وساعة تذرف الدموع بسببه. يستغرب من حولك ويظنون أن فيك مسا من الجنون يزيد ذلك الهاتف بداخلك عندما تكون وحيدا تتقاذفك أمواج التفكير، تتساءل: ما مصدر ذلك الحوار الذي يجري بلا صوت داخل دماغك ويؤثر في قراراتك ومصيرك وحالتك النفسية وصحتك الجسدية؟.
ذلك العزف المنفرد داخل دماغك الذي يكون مونولوجا داخليا وحوارا طويلا بين المرء وذاته، أحداث وثورات وأحلام وتكهنات تدور داخل سراديب عقلك لا يشعر بها إلا أنت قد ترفعك إلى سابع سماء أو تهوي بك إلى قاع الأرض، حديث مستمر بلا انقطاع.
تبدأ تشكل هذه الآلية من الطفولة في عمر السابعة تقريبا، حيث يميل الطفل في هذا العمر إلى ترجمة ما يراه وتحويل الصور إلى كلمات ومعارف، وهذه الاستراتيجية هي عملية تشفير بحيث لا تتضمن لفظا حقيقيا أو كلاما. إنها ظاهرة "تحت صوتية" تكون نواة لحديث النفس عندما نكبر، ولا أحد يستطيع أن يجزم بوجود رابط بين هذه الظاهرة والدائرة اللغوية التي تولد الكلام الخارجي في الدماغ.
ولهذا الحديث الداخلي أشكال عدة، كأن تسترجع ما قرأت أو تدندن بأغنية لا تستطيع إزالتها من دماغك أو على شكل حلقة نقاش بينك وبين ذاتك في موضوع مر عليك تستعرض فيه جميع النقاط وتناقش الحلول وردود الأفعال، لكي تبني قرارك أو يكون حديث النفس اجترارا للماضي والأحزان وتأنيب الضمير وتعزيز الشعور بالألم والخيبة والانكسار، وهذا يحدث لدى الأشخاص السوداويين، أما المتفائلون فيحاولون سد كل الطرق أمام صوتهم الداخلي الذي يؤدي بهم إلى الحزن ويحاولون زرع الأمل في داخلهم وإقناع أنفسهم أن غدا أفضل.
ولكن، هل يملك جميع البشر هذا الصوت الداخلي في أدمغتهم؟ أنت من سيجيب على هذا التساؤل، فإذا كنت تفتقد مونولوجك الداخلي، فأنت مثل الكثيرين، الذين يعجزون عن سماع هذا الصوت. وليس معنى ذلك توقف أفكارهم أو انعدام أحاسيسهم، بل يختلفون في طريقة تعامل أدمغتهم مع التجارب التي يمرون بها بحيث لا تترجم إلى لغة فقط.
وميزة هذا الصوت أنه ملتزم بآداب الكلام، بحيث لا يأتي إلا إذا استدعيته، ولا يختلط مع الأصوات الخارجية، ويتوقف متى ما أردنا. ويلعب هذا الصوت الداخلي دورا فاعلا ومصيريا في حياتنا، بدءا من إدراكنا لذاتنا، ويمتد ليشمل طريقة أدائنا مهامنا وقدرتنا على التصرف في الأزمات وحل المشكلات، ومن ناحية أخرى قد يضر بنا إذا استسلمنا لنقده المستمر وتقليله من كل ما نفعل.
إنشرها