Author

توترات ما بعد بريكست

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"على بريطانيا الالتزام بتعهدات بخصوص بريكست، وإلا خسرت مصداقيتها الدولية"
ميشيل بارنييه، رئيس المفاوضين الأوروبيين
لم يكن الأوروبيون يتوقعون أن تقفز بريطانيا على التعهدات التي وقعت عليها، ضمن اتفاقية خروجها من الاتحاد الأوروبي بريكست. كما أنهم لم يتوقعوا أن تمر عملية تنفيذ الاتفاق التجاري مع لندن بسلام، أو دون منغصات أو عقبات. فتفاصيل هذا الاتفاق فيها من الثغرات الكثير، ما يفسر وجود بنود تفرض تشكيل لجان مشتركة في كل شيء تقريبا، في حال بروز الخلافات المتوقعة بين الطرفين. والاتفاق المشار إليه الذي ينظم العلاقة بين لندن وبروكسل بعد بريكست ليس متماسكا، كما قد يبدو للوهلة الأولى، خصوصا في القضايا المتداخلة الحساسة، ما دفع المراقبين للاعتقاد أن الدعاوى القضائية بين الجانبين ستكون حاضرة طول الأعوام المقبلة، ولا سيما في ظل المواقف البريطانية الصارمة، وفي تمسك الاتحاد الأوروبي نفسه ببنود الاتفاق كلها.
مطلع الشهر الجاري، توجهت قطع حربية بريطانية إلى جزيرة جيرسي التابعة للمملكة المتحدة التي تقع قبالة الساحل الفرنسي، وبعدها بساعات انتقلت قطع حربية فرنسية مماثلة إلى المنطقة نفسها، في مشهد رهيب لا يمكن لأحد أن يتوقعه. كان السبب تجمع 50 زورق صيد فرنسيا احتجاجا على شروط الصيد المفروضة في اتفاق بريكست. صحيح أن المواجهة العسكرية بين لندن وباريس استعراضية، لكن الصحيح أيضا، أن مثل هذا التطور لم يخطر ببال أحد على الإطلاق. واحدة من مزايا قيام الاتحاد الأوروبي أن إمكانية المواجهة العسكرية بين الدول الأعضاء لأي سبب، باتت صفرا وإلى الأبد، وهذا الاتحاد يشكل ضمانة لا حدود لها للأمن والسلام في القارة الأوروبية، إلى جانب طبعا العوائد الاقتصادية والاجتماعية الهائلة على دوله.
لكن حتى هذا الحادث الذي انتهى كما بدأ، يظل أقل أهمية من المشكلات التي بدأت تتصاعد بين لندن وبروكسل حول تنفيذ اتفاق التجارة من الزاوية الإيرلندية. وهذه الزاوية تبقى أكثر العقد تشابكا على الإطلاق، وظلت مثارا ليس فقط للخلافات بين الطرفين، بل سببا لإمكانية فشل مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. المفاوضات توقفت، وانسحب المفاوضون في أكثر من مناسبة، بعد أن أخفقوا في الوصول إلى رؤية أو اتفاق أو تفاهم حيال مصير إيرلندا الشمالية بعد الخروج. إلا أنهم في النهاية توصلوا إلى هذا الاتفاق المهزوز بشأن إقليم شهد على مدى قرن من الزمن مشكلات وإرهابا وحروبا طائفية، قبل أن تتوصل الأطراف المعنية إلى اتفاق سلام برعاية الولايات المتحدة قبل 25 عاما، وصف بأنه الأهم في القرن الماضي.
كان على الحكومة البريطانية أن تقيم حدودا مع إقليم إيرلندا التابع لها اعتبارا من الشهر الثالث من هذا العام وفق اتفاق الخروج النهائي. لكنها لم تقدم على هذه الخطوة خارقة بذلك اتفاقية دولية، في سابقة نادرة لدولة كبرى كبريطانيا. وهذه الأخيرة تحاول بشتى الوسائل عدم تنفيذ هذا البند الحيوي والمحوري لماذا؟ لأنها لو نفذته ستقيم بذلك حدودا بينها وبين إقليم تابع لها، وهو أمر نادر أيضا على الساحة الدولية. فكيف تقيم حدودا جمركية بين مدينتين في بلد واحد؟ إلا أن الاتفاق ليس غامضا، وهو واضح جدا وبالتفاصيل. الحدود التي يطالب بها الاتحاد الأوروبي وفق الاتفاق المبرم، يضمن اتفاقية السلام الإيرلندية التي تنص على أن تبقى الحدود بين الإيرلنديتين "الشمالية البريطانية، والجنوبية المستقلة" مفتوحة دون عوائق إجرائية أو جمركية.
كان وجود بريطانيا في الاتحاد الأوروبي يضمن ذلك تلقائيا، ولم تكن هناك حاجة إلى اتفاق، لكن بعد الخروج البريطاني صار الأمر مختلفا تماما. ووسط هذا التطور الخطير، تقاعست حكومة بوريس جونسون أيضا في عملية تنفيذ الشق الآخر الخاص بحقوق الصيادين لكلا الطرفين، ما سبب الأزمة الأخيرة. لم يعد أمام الاتحاد الأوروبي سوى الإقدام على اتخاذ الإجراءات القانونية حيال المسألة الإيرلندية. الضوابط واضحة، على بريطانيا أن تضع نقاطا جمركية وتنظيمية في موانئ إيرلندا الشمالية، على البضائع الآتية من البر البريطاني. وهذا يعني ببساطة أن لندن وافقت بالفعل حين وقعت على اتفاق الخروج أن يكون إقليم إيرلندا ضمن المجال الجمركي للاتحاد الأوروبي. فاتفاقية السلام الإيرلندية أكثر أهمية دوليا من اتفاق خروج بريطانيا من هذا الاتحاد.
لن يسمح الاتحاد الأوروبي لبريطانيا بانتهاك بروتوكولات الاتفاق بصرف النظر عن طبيعتها. ورغم أن الحدود الجمركية ضمن البلد الواحد أمر مؤلم لهذا البلد، إلا أن الحكومة البريطانية التي سعت للخروج من الاتحاد الأوروبي، عليها أن تدفع الثمن. لا مجال هنا للتهرب، خصوصا عندما يكون الطرف دولة بحجم ومكانة المملكة المتحدة أوروبيا وعالميا. ومهما تكررت محاولات لندن تعطيل تنفيذ بنود ما في اتفاق الخروج، إلا أنها تعرف تماما أنها ستواجه لحظة الحقيقة قريبا. ستتم إقامة ما أصبح يسمى الحدود الصلبة مع إيرلندا، سواء بتراجع الحكومة البريطانية عن محاولاتها هذه، أو عبر التحكيم والقضاء. فلا أحد يتوقع أن تكون مكاسب بريكست كاملة. في الواقع هناك من يرى أن أضرار الانسحاب أكبر من فوائده.
إنشرها