من قهر من .. الجائحة أم نحن؟

بعد أكثر من حول، لا يزال فيروس كورونا المستجد في أوج قوته. اللقاحات التي توصل إليها بعض الدول كانت بمنزلة تعزيزات في معركتنا مع الوباء الذي سببه هذا الفيروس، إلا أننا، وبشهادة الإخصائيين ما زلنا بعيدين عن قهره.
وقد يرى القارئ اللبيب أنني توصلت إلى الاستنتاج أو الجواب لأول وهلة ونحن ما زلنا في مستهل المقال، ما يعارض أغلب مادة هذا المقال حيث في الأغلب نبني فرضيات ونلقي الضوء عليها تباعا وتأتي المحصلة في الخاتمة.
في رأي، هناك أكثر من دليل على أن قصب السبق حتى الآن هو للفيروس، الذي أظهر عنادا شديدا ومقاومة شرسة لكائن، كان ولا يزال، مأخوذا بغروره ومقدرته على قهر الطبيعة وما وراء الطبيعة.
أي حديث عن فيروس كورونا لا بد أن يأخذ السرديات التي رافقت ظهوره ومن ثم تحوله إلى جائحة على مستوى العالم، يعانيها الكل ولو بمستويات متفرقة.
وإن تحدثنا عن الجائحة بصورة عامة، علينا أن نأخذ في الحسبان السرديات التي رافقت وترافق ما استنبطناه كبشر من إجراءات وعقاقير لاحتوائه ودحره.
وأظن يتحتم علينا أن نشرح أو نعرف مفهوم السردية narrative التي ما هي إلا واحدة من مئات المفردات والتعابير التي استعارتها العربية من الإنجليزية في العصر الحديث.
باختصار شديد، السردية تعني تقديم تفسير أو توضيح للأحداث والأشخاص وكل ما يشكل الواقع الاجتماعي من خلال ما نؤمن به أو نتبناه من وجهات النظر أو أيديولوجيات أو أفكار أو مواقف محددة.
وهذا يعني، أن هناك سرديات عديدة حول أي حدث أو شيء ذي دلالة اجتماعية أو فكرية أو ثقافية. وأفضل مثال هو مفهوم "الإرهاب" وما ننسب إليه من أحداث نطلقها عليها "إرهابية" ونطلق على القائمين بها "إرهابيون".
وأوضح تطبيق للمثال أعلاه وسردياته المختلفة والمتعارضة هي الحرب الدائرة في غزة. ربما ليست هناك في عالمنا اليوم قضية أعدل وأنصف وأنزه من القضية الفلسطينية، حيث يقبع الفلسطينيون ولأكثر من نصف قرن، ونحن في العقد الثاني من القرن الـ 21 إما تحت احتلال غاشم أو حصار قاتل.
مع كل هذا الوضوح - بالمناسبة أنا أراه هكذا لأنه يقع ضمن سرديتي - نرى سرديات تضع الفلسطينيين الضعفاء في خانة "الإرهاب" وتمنح المحتل صاحب السطوة والقوة العسكرية والمال الوفير في خانة المدافع عن الحرية والديمقراطية.
أن تكون لنا سرديات مختلفة عن أحداث أو مواقف مثل التي أشرت إليها في أعلاه، فهذا لعمري جزء من الطبيعة البشرية.
لن تكون لنا كبشر سردية مشتركة حول ما يقع من أحداث وحول المكونات والعناصر التي تشكل واقعنا الاجتماعي. وهذا ينطبق على ما نقرأه من نصوص (خطاب) تعكس واقعنا الاجتماعي والثقافي، الواقع الذي ينعكس بدوره أيضا فيما نكتبه أو ننطقه.
لماذا لنا سرديات مختلفة؟ الجواب: لأننا نملك ثقافات وخلفيات مختلفة وترعرعنا في واقع اجتماعي له مقوماته الخاصة به وتحدد لنا نطاق نظرتنا إلى الحياة.
ولماذا لنا سرديات مختلفة؟ الجواب: لأن لنا قراءات متباينة تحدد لنا الأفق الذي لن نسمح لناظرينا تجاوزه حتى إن ارتدينا فوقها منظارا معظما.
ولماذا لنا سرديات مختلفة؟ الجواب: لأن لنا مصالح متعارضة، والبشر يركضون وراء مصالحهم ويتقاتلون من أجلها حتى إن عاكست قراءتهم وخلفياتهم الثقافية.
ونأتي الآن إلى مفتاح مقال هذا الأسبوع ونقول هل فيروس كورونا المرعب، الذي شل حياتنا تقريبا وأقعدنا في ديارنا لفترة طويلة وخطف الملايين وأصاب عشرات الملايين، جزء من الثقافة والواقع الاجتماعي والمصالح الضيقة؟ أليس هذا فيروس لا واقع اجتماعي له، لأنه عابر للثقافات والأديان والألوان والمذاهب وأي واقع اجتماعي آخر مهما كانت خصوصيته؟.
هذا صحيح، لكن طبيعتنا البشرية غلفت الوباء وعلبته ضمن الواقع الاجتماعي الذي نعيشه.
وهكذا ظهرت للجائحة سرديات مختلفة لأننا حورنا الفيروس - الذي يحور نفسه في مقاومته لأسلحتنا (عقاقيرنا) - وجعلناه جزءا من ثقافتنا وخطابنا وواقعنا الاجتماعي.
وطالما لنا سرديات مختلفة لفيروس كاد يقضي علينا كبشر دون تمييز، وطالما نتشبث بهذه السرديات رغم سلبياتها تكون الجائحة قد قهرتنا.
وما هذه السرديات يا ترى؟ لنترك شرح ذلك للمقبل من الأيام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي