التنقية الروحية

ربما يسهل على كثيرين التمني أن يكون رمضان فرصة لتنقية الجسم من بعض المواد أو السموم، أو إنقاص الوزن، وأقول التمني لأن الأمر يحتاج إلى إرادة قوية، وإلى معادلة موضوعية، فلا يصح مثلا التوقف عن أكل الأرز، وأنت تأكل كمية حلويات يوميا تكفي لتدمير أي برنامج صحي أو غذائي.
إجمالا، هناك نجاحات معقولة لدى البعض في "الديتوكس"، خاصة فيما يتعلق بالقهوة والشاي، ربما لأنهما الأسهل نسبيا قياسا بالمواد الأخرى، والنجاح الحقيقي يكشف عنه الميزان يوم العيد.
لعل الأهم في هذا الشهر الكريم هو التنقية الروحية، وهذه تحتاج إلى تنقية الجسم، فالأجسام المتخمة لا يمكن أن تكون لها عقول رائقة، ودون أجسام خفيفة أو متخففة نسبيا، وعقول رائقة، يصعب الوصول إلى لذات الروح، أو الوصول إلى تنقيتها بأي درجة.
لا أعرف إن كانت تسمية الأمر بالتنقية الروحية دقيقا، فالأمر فيه سمو بالروح، وارتقاء بالذات عن شوائب معينة، لكنها التسمية الأقرب للفكرة، والفكرة الصحيحة عن شيء هي أهم نقطة عند التعامل معه أو الإقبال عليه.
ينبغي للباحث عن ذلك تقليل الصخب من حوله، وأول صخب يجب الابتعاد عنه هو غثاء بعض المسلسلات والبرامج، حيث يمكن انتقاء شيء عميق منها - إن وجد - يخاطب العقل وليس الغرائز.
الصخب الثاني هو، وسائل التواصل الاجتماعي التي يحسن التقليل منها إلى الحد الأدنى اللازم للاتصال أو متابعة الأخبار المهمة فقط، أو استخدامها لبث مواد قرائية وكتابية بعيدة عن الجدل أو الوسوم وخلافها.
الصخب الثالث هو، صخب الشارع، فلا يمكن تحقيق سلام روحي وأنت وسط الزحام، خاصة الزحام الذي لست مضطرا له، ومعه صخب بعض الزحامات الأخرى الخاصة بالحصول على أطعمة أو أطباق معينة.
إحساسك بالامتثال لمتطلبات الصوم الحقيقية جزء من سلامك الروحي، فكف اليد عن الطعام، والبصر عن الحرام، يعطي شعورا جميلا يمكن تعزيزه أيضا بالقراءة "النوعية" للقرآن الكريم، والقراءة المتأنية فيما تحب فعلا أن تقرأ، والتأمل في شجرة في فنائك، أو نبتة داخل منزلك.
النجاح في الأمر ليس سهلا، لكن في تحقيقه ميزة جميلة، أن كل يوم تنجح فيه قليلا يساعدك في اليوم التالي، وكأنك تبدأ من حيث انتهيت، وأنك بعكس أنواع "الديتوكس" الأخرى للجسد لن تعاني أعراضا انسحابية، بل إن أعراضك ستكون "التحليق" بخفة في عوالمك الذاتية، ومنها إلى فضاءات أرحب تقربك إلى ما تحب، ومن تحب، وتعلمك كيف تحب أكثر، وتقترب أكثر.