الماضي يلقي ظلاله على علاقة الغرب مع إفريقيا

هناك كثير من الأحداث الساخنة في العالم تستقطب اهتمام الإعلام واهتمامنا. بعض هذه الأحداث من الخطورة بمكان، ما يجعل الدم يجمد في عروقنا، خصوصا الذين عانوا الأمرين من استمرار الحروب والصراعات الدموية في مناطقهم.
قبل نحو منتصف العقد الماضي، كان الغرب ساحة الوغى تدور في رحابه معارك وصراعات مروعة، ترافقها كراهية وعنصرية مقيتة وصلت إلى حدود لم يعرفها التاريخ الإنساني بشاعة مثل حرق ملايين الناس وهم أحياء لمجرد كونهم من فئة محددة. نحن كبشر، نفقد كثيرا من إنسانيتنا في حالات الغضب والانفعال التي تنتابنا. ومن النادر أن نلقى بشرا لم يندم على ما بدر منه في حالة فوران من الغضب.
قد يحدث أن نرفع صوتنا عاليا، أو نقوم بتكسير الأشياء حولنا أو رميها. في حالة فوران الغضب والانفعال، تقودونا أعصابنا (أيادينا وأرجلنا) وتضعف سيطرة القلب (العقل) على مشيئتنا.
وبالطبع، فإن تحكم أعصابنا بمشيئتنا وجرنا إلى اقتراف ما لا يوائم بشريتنا لا يمكن ولا يجوز أن يتخذ عذرا لتبرير أعمالنا، لأننا بإراداتنا نتخلى عن تحكيم العقل ونلجأ إلى تحكيم العواطف والانفعالات الآنية في تصرفاتنا.
قد لا تؤدي هذه المقدمة الفكرية البسيطة الغرض، بيد أني أراها كافية لتسليط بعض الضوء على عنوان مقال الأسبوع. نحن كبشر في الأغلب لدينا أعذار كثيرة لتبرير مواقفنا مهما كانت بعيدة عن إنسانيتنا، وفي الوقت نفسه لنا كثير من الحجج والبراهين لإدانة الآخر وتحميله ليس وزر ما يقوم به، بل حتى وزر ما نتعرض له من مساوئ.
لقد دافع بعض قادة الحزب النازي الألماني عن أنفسهم وأعمالهم وفكرهم دفاعا مستميتا في محاكم نورمبيرج الشهيرة، رغم أن ماكينة الحقد النازية أحرقت أكثر من ستة ملايين من البشر وهم أحياء، بينهم نساء وأطفال وشيوخ.
ويقدم الإطار الفكري المبسط هذا تفسيرا لعلاقتنا بالماضي. ماضينا أغلبه مجيد ورموزه واجبة الاحترام والتبجيل.
والماضي يحتلنا، شئنا أم أبينا، ونتعامل معه ورموزه كأنهم يعيشون بين ظهرانينا. والماضي نحبه ونحن إليه، وندافع عنه أحيانا دفاعنا عن حاضرنا.
وقد يحدث - مع الأسف هذا هو الواقع الذي نعيشه - أننا لا نستشعر بوقع ماضينا على غيرنا، ونقدم التبريرات تلو التبريرات رغم الثوابت التاريخية التي تديننا.
وما يزيد الوضع مرارة وسوءا هو التراكم الزمني والتاريخي الذي فيه يستمر التبجح بالماضي، في حين يستمر أنين الذين وقع عليهم ظلمه في الارتفاع.
وهذا قد يفسر ما يكتنف من حساسية العلاقة بين إفريقيا - القارة السوداء - والغرب أو أوروبا - القارة البيضاء. هناك خلل في العلاقة بين القارتين، سببه اللون: الأسود الذي كان لا يمقته البيض فحسب بل ينظرون إليه بدونية يحق لهم بموجبها استخدام البشر من هذا اللون عبيدا ضمن أطر وممارسات ومفاهيم تفوق في سوئها ما عرفته ومارسته البشرية من تمييز.
واستمر الغرب في تبجيل ماضيه ورموزه - ولا يزال - رغم ما اقترفته من مظالم في حق الأفارقة، واستمر الأفارقة في استلهام الماضي والتعبير عن أنينهم وألمهم بطرق شتى.
وصار للأنين صوت بثه الأفارقة في الموسيقى والآدب والفنون التعبيرية الأخرى - وهذه من أرقى ثمار الحضارة الإنسانية - كي لا تنسى الأجيال الظلم الذي وقع عليها فقط لأن اللون مختلف.
وأتذكر التعابير المليئة غضبا وألما عندما كنا ندرس في لندن ونمر مع زملائنا الأفارقة بجانب التماثيل والنصب التي تزين ساحاتها، وبعضها يؤرخ لما يراه الإنجليز أبطالا وطنيين وفي نظر أصدقائي الأفارقة مجرمون.
والأنكى، ما كان يضمره زملائي الأفارقة من غضب كبير على مناهج التاريخ في المدارس خصوصا تلك التي كانت تؤرخ لفترة الاستعمار وتجمله وتغض الطرف عن مآسيه.
ولم يصدق الأفارقة من الإنجليز (حاملي الجنسية البريطانية) أعينهم وأنفسهم لا بل دنياهم عندما حلت المناسبة للانتقام، حيث هبوا هبة رجل واحد وأخذوا يسقطون التماثيل هذه ويرمونها أرضا إثر الحملة العالمية ضد العنصرية، الحملة التي دشنها في العام الماضي مقتل رجل أمريكي من الأصول الإفريقية على يد شرطي أبيض في أمريكا.
وصار كثير من الناس يفكر مليا في مراجعة الماضي، ولم يعد يكترث إن جرى استئصال رموزه الملطخة بالظلم والاضطهاد بالمفهوم الاستعماري القديم.
ووصل الأمر إلى الساسة وأصحاب النفوذ والإعلام، حيث هناك دعوة صريحة إلى مراجعة النفس قبل الحديث عن تطوير العلاقات مع القارة السوداء، التي حسب التكهنات ستصبح عملاقا اقتصاديا كبيرا في غضون العقود الثلاثة المقبلة.
لكن يبدو أن إفريقيا ذاتها ليست في وارد نسيان الماضي وكأن شيئا لم يحدث، ومن هنا الإصرار على التشابك الاقتصادي والثقافي مع الصين البعيدة على حساب أوروبا القريبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي