Author

استقلال المراجع الداخلي ليس للتنمر

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
المراجعة الداخلية ليست كالمراجعة الخارجية، لا من حيث المفهوم ولا التأهيل ولا الأعمال والمهام، ولا التقرير، وبالطبع حتى في مفهوم الاستقلال. فبينما بنيت مهنة المراجع الخارجي على أكتاف الاستقلال، فإنها تنتفي مع انتفائه وتدور كمداره بين الضعف والاتهام، لكن المراجعة الداخلية ليست كذلك، ولم تبن أساسا على مفهوم الاستقلال، بل على مفهوم الموضوعية، والعمل الاستشاري، وستبقى حتى لو كانت هناك مشكلة صريحة في ظاهر الاستقلال. لن أناقش اقتصادات المراجعة ومحفزات الطلب على خدمات المراجع الخارجي، لكن من المهم التأكيد أن أهم دور للمراجع الخارجي يأتي بسبب رأيه المستقل، بينما وظيفة المراجعة الداخلية تأتي بسبب دوره الاستشاري، وإذا كان المراجع الخارجي يستطيع أن يؤثر في القوائم المالية للمؤسسات وأسعار الأسهم من خلال الاعتراض عليها أو من خلال الامتناع عن إبداء الرأي، فمن الخطأ الكبير أن يعمل المراجع الداخلي لمثل ذلك. فالفرق بين المهنتين جلي وواضح لكل متعمق، لكن لأسباب بنيوية لدينا، وأسباب تعود لنشأة مهنة المراجعة الداخلية المتأخرة، ولأن معظم الممارسين لمهنة المراجعة الداخلية قد تلقوا تلك المعرفة من خلال علاقتهم بمهنة المحاسبة والمراجعة الخارجية، لهذا ظهرت شوائب كثيرة في الممارسات، ومن ذلك التركيز الشديد على مفهوم الاستقلال الذي ولد التنمر على الإدارة التنفيذية، التي قابلت التنمر بمثله، ما أعاق تقدم المهنة كثيرا حتى الآن.
في اجتماع موسع في مدنية دبي قبل نحو ستة أعوام لأكثر من نحو 80 مديرا تنفيذيا لجمعيات المراجعة الداخلية في العالم، وذلك بتنظيم من المعهد الدولي للمراجعين الداخليين، كان النقاش الأبرز حول دلالات مفهوم الاستقلال في مهنة المراجعة الداخلية، ومشكلة التعريف التي أكدت هذا المفهوم، ما أنتج صراعا مع الإدارة التنفيذية، إذ كيف يعقل أن يكتشف المراجع بعض الثغرات في نظام الرقابة الداخلية ثم يرفض تقديم اقتراحات لمعالجتها بحجة أنه مستقل. ولا معنى لأن ينعزل المراجع الداخلي عن بيئة العمل والزملاء. كل ذلك يوجد بيئة صراع وليس بيئة تضيف قيمة للمنظمة، وهنا النقطة الأخرى، إذ كيف يمكن أن يضيف المراجع الداخلي قيمة للمنظمة وهو يصر على عدم ممارسة عمله الاستشاري، فاكتشاف الثغرات في النظام ليس بالضرورة يحقق قيمة ما لم تتم معالجة هذه الثغرات، وتكون هذه الاكتشافات وهذه المعالجة من باب تحقيق أهداف المؤسسة وليس من باب إثبات فشل أداء الإدارة، فالاستقلال الذي يحرم المؤسسة من خدمات المراجع الداخلي، ويمنعه من تقديم العمل الاستشاري أو الاندماج مع المؤسسة ورئيسها من أجل تحقيق الأهداف، هو استقلال محبط ومهدر للقيمة وليس مضيفا لها.
المراجع الداخلي في كثير من المؤسسات ليس محض مبلغ أو نافخا للصفارة أو جاسوسا للجنة المراجعة ومجلس الإدارة، بل هو فاحص أمين مهني متمرس على اكتشاف الثغرات في نظام الرقابة الداخلية التي قد تسبب حدوث المخاطر التي تهدد تحقيق الأهداف. لكن معالجة هذه الثغرات - في الأغلب - يتطلب موارد إضافية حتما أو إعادة توجيه للموارد الاقتصادية في المنشأة وإعادة هيكلة رأس المال البشري، وهذا قرار الجهاز التنفيذي بحسب رغبته في المخاطر وقدرته على الدفاع عن ذلك، وفقا لتوجيهات مجلس الإدارة بالطبع، ولهذا فإن عدم التناغم بين المراجع الداخلي والمدير التنفيذي بشأن هذا التقدير وارد بشكل كبير، وإذا أصر المراجع على وجهة نظره البحتة ودافع عنها بشكل مبالغ فيه، فإنه بذاته يتحول إلى مصدر للمخاطر، إذ قد يكون من المناسب في نظر الإدارة استثمار الموارد لاستغلال الفرص المتاحة الآن بدلا من توجيهها لمعالجة ثغرات لمخاطر محتملة، لهذا فإن دور المرجع الداخلي يجب ألا يتحول نحو الصراع مع الإدارة التنفيذية أو صراع يصبح المراجع الداخلي فيه كمدير تنفيذي آخر، حيث يصر على توجيه الموارد بحسب ما يراه. هذا هو مصدر التنمر والتنمر المضاد في الأجهزة والمؤسسات بين الجهاز التنفيذي والمراجعين الداخليين، وكي يتم حل هذا الصراع يجب أن يركز المراجع الداخلي على بناء رأي موضوعي، وليس رأيا مستقلا، موضوعي بمعنى أن يضع أهداف المؤسسة نصب عينيه، ويتفهم مقاصد المدير التنفيذي من بعض القرارات، ويسهم في معالجة الثغرات الرقابية التي تضمن تحقيق الهدف مع ضمان عدم حدوث تحريفات في التقارير أو إخفاء للمعلومات أو تلاعب في الأرصدة أو سوء استخدام للأصول، أو اختلاسها، والأهم هو ضمان تحقيق أهداف المؤسسة وليس الانحراف عنها تحيزا لأهداف أخرى حتى لو بدت تلك الأهداف أخلاقية أو اجتماعية أو مبررة بأي طريقة، ما لم تكن الأهداف التي وضعها مانح الأموال.
بالتأكيد، فإن لائحة المراجعة الداخلية، التي أعدت قبل أكثر من عقد من الزمان، تحتاج إلى تطوير بهذا الشأن، حيث إنها ألغت في تقرير موضوع الاستقلال وحدت من دور المراجع الداخلي وتفاعله مع مؤسسته، لكن الأهم الآن هو جهد الجمعية السعودية للمراجعين الداخليين في ذلك، إعادة صياغة المفاهيم، حيث تصبح أكثر اتساقا، ولا يساء فهمها من قبل المهنيين في الميدان، وإلا فإن المهنة ستتلاشى في ظل تنامي دور الإسناد الخارجي، وتنامي الطلب على شهادات مثل GRC.
إنشرها