Author

مخرجات البحث العلمي .. بين مزايا النشر وفوائد السوق

|

إذا نظرنا إلى خصائص كل عصر من العصور التي مرت على الإنسان عبر التاريخ لوجدنا أن أهم هذه الخصائص ترتبط دائما بالمعرفة وتجددها، والتمكن من توظيفها والاستفادة منها. والمعرفة هذه هي ما يستطيع الإنسان اكتسابها نتيجة تفاعل محاكمات التفكير في عقله البشري مع معطيات الطبيعة التي أحاطه الله تعالى بها. فعبر هذا التفاعل تأتي الاكتشافات، وتبرز الإبداعات، وتنطلق الابتكارات لتقدم خصائص تميز لكل عصر من عصور التاريخ. ويتميز العصر الذي نعيش فيه ليس فقط بوجود تقنيات واكتشافات غير مسبوقة، كتقنيات الفضاء السيبراني والذكاء الاصطناعي، واكتشافات الخريطة الجينية، بل بحدوث تسارع في تجدد التقنيات والاكتشافات، وظهور مزيد من المبتكرات غير المسبوقة. ويضع هذا الأمر الأمم الطامحة إلى التميز في سباق معرفي يقترن الفوز فيه بالأفكار والمنتجات والخدمات الجديدة والمتجددة التي تقدم قيمة غير مسبوقة تستطيع تحفيز التنمية وتعزيز استدامتها.
يتطلب دخول السباق المعرفي الاهتمام بالبحث العلمي والسعي إلى توظيف مخرجاته من أجل الاستفادة منها. ويحتاج هذا الأمر إلى الإنفاق على البحث العلمي، أو لعل التعبير الأدق هو الاستثمار في البحث العلمي، لأن القيمة التي تقدمها مخرجاته يمكن أن تتجاوز بفارق كبير قيمة نفقاته، وتتولى منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم: اليونيسكو UNESCO نشر إحصائيات سنوية حول البحث العلمي في مختلف دول العالم، بالتعاون مع هذه الدول ومع مؤسسات عالمية أخرى.
تشمل إحصائيات "اليونيسكو" حول البحث العلمي مؤشرات ترتبط بخمسة أبعاد رئيسة هي: مجمل الإنفاق على البحث العلمي، ومصادر هذا الإنفاق، وجهات التنفيذ، وطبيعة البحوث، إضافة إلى موضوعاتها. وهناك مؤسسات أخرى تعمل على المستوى الدولي تنشر مؤشرات تتضمن إحصائيات إضافية مثل: عدد الأوراق البحثية المنشورة في المجلات المختصة، وعدد حالات الإشارة إليها من قبل بحوث منشورة أخرى، إضافة إلى براءات الاختراع المسجلة، وغير ذلك. ويستخدم دليل الابتكار العالمي GII بعضا من هذه المؤشرات ضمن مؤشراته البالغة 80 مؤشرا التي تسعى إلى تقييم حالة الابتكار في دول العالم المختلفة.
يعطى مؤشر مجمل الإنفاق على البحث العلمي كنسبة مئوية من إجمالي الناتج المحلي GDP للدولة المعنية. وتشمل مصادر هذا الإنفاق كلا من: قطاع الأعمال، والقطاع الحكومي، والمؤسسات غير الربحية، إضافة إلى مصادر أخرى تعنى بالبحث العلمي في مجالات مختلفة. وتزيد حصة قطاع الأعمال من الإنفاق على البحث العلمي على حصة القطاع الحكومي في مختلف الدول الصناعية.
ونأتي إلى جهات تنفيذ البحث العلمي التي تتضمن: الجامعات، وقطاع الأعمال، والقطاع الحكومي، إضافة إلى جهات أخرى. وتختلف طبيعة البحوث المنفذة، فهناك البحوث الأساسية Basic التي تهتم بتوليد المعرفة بالاكتشاف والإبداع في المجالات النظرية. وهناك البحوث التطبيقية Applied التي تعنى بتوليد المعرفة القابلة للتوظيف في المجالات التطبيقية. ثم هناك بحوث التطوير التجريبيExperimental Development التي تركز على التوظيف الفعلي للمعرفة، والعمل على تقديم معطيات جديدة أو متجددة تحتاج إليها السوق.
وتشمل الموضوعات، التي تلقى عادة نصيبا من الإنفاق على البحث العلمي، ستة مجالات رئيسة هي: العلوم الطبيعية، والهندسة والتقنية، وعلوم الطب والصحة العامة، والزراعة، والعلوم الاجتماعية بما يشمل الاقتصاد، والعلوم الإنسانية المختلفة، وقد يكون هناك مجالات أخرى تبعا لتوجهات الدولة المعنية.
تتجه مسيرة مخرجات البحث العلمي نحو مقصدين رئيسين. أحدهما هو النشر العلمي على المستوى الدولي الذي يحمل قيمة معنوية حضارية تتمثل في تقديم إسهام معرفي وجعله متاحا للجميع لتعميم الاستفادة منه. أما المقصد الآخر فهو السوق، حيث يتم توظيف المعرفة وتحويلها إلى منتج مادي مرحب به من قبل الناس، أو خدمة مطلوبة، أو إجراء فعال ضمن معطيات مفيدة، ليسهم ذلك في توليد الثروة وتشغيل اليد العاملة والإسهام في التنمية.
كثيرا ما يكون النشر العلمي هو المقصد الوحيد الذي تؤول إليه بحوث الجامعات عند غياب التعاون مع قطاع الأعمال وقطاعات المجتمع الأخرى. فرغم أن مثل هذه البحوث تحمل معطيات معرفية مفيدة، إلا أنها لا تكون جاهزة للتوظيف ما لم تخضع لبحوث تجريبية تسعى إلى تجهيزها لمقصد السوق، حيث تستطيع عندئذ جذب المشترين عبر ما تقدمه من فوائد في مقابل تكاليف معقولة. ولا تتوافر مثل هذه البحوث في الجامعات عادة إلا في حالات التعاون بين الجامعات وقطاعات المجتمع الأخرى، وعلى رأسها قطاع الأعمال.
ولعله من المفيد هنا الإشارة إلى أن الدول الصناعية الأكثر إنفاقا على البحث العلمي، ليست هي بالضرورة الأكثر نشرا للبحث العلمي. فألمانيا، على سبيل المثال، وطبقا لإصدار دليل الابتكار العالمي لعام 2020، تحتل المركز السابع دوليا في الإنفاق على البحث العلمي، لكن مركزها في النشر العلمي هو الـ 34. ويتشابه ذلك مع كوريا الجنوبية التي تحتل المركز الثاني في الإنفاق على البحث العلمي، لكنها في النشر العلمي في المركز الـ 27. ولعل في ذلك دلالة على أن الإنفاق على البحث العلمي ليس من أجل النشر العلمي فقط، بل من أجل السوق ودورها في التنمية أيضا.
لا شك أن الجامعات تتطلع إلى مخرجات بحثية لا تكتفي بالتوجه نحو النشر العلمي فقط، بل تسعى أيضا إلى الاستجابة لاحتياجات السوق ومتطلبات التنمية، وهي بذلك تطمح إلى استكمال بحوثها النظرية والتطبيقية ببحوث تجريبية وتطويرية تسعى للوصول إلى السوق والإسهام في التنمية. ويحتاج تحقيق ذلك إلى تواصل وتعاون مأمول بين الجامعات وقطاعات المجتمع المختلفة. في هذا الإطار، تستطيع الجامعات تقديم مخرجات بحثية تجذب رأس المال الجريء نحو دعم متابعتها والاستثمار فيها. كما تستطيع قطاعات الأعمال المختلفة الاستعانة بالجامعات، والاستفادة من إمكاناتها المعرفية، من أجل إيجاد حلول للمشكلات التي تواجهها، وتعزيز آفاق التطوير التي تتطلع إليها. والأمل أن تكون هناك هيئة مشتركة بين هذين الطرفين غايتها شراكة معرفية مثمرة تسهم في التنمية وتدعم استدامتها.

إنشرها