Author

هل تنجح الزراعة التعاقدية في المملكة؟

|
مختص بالأسواق المالية والاقتصاد

أعلن صندوق التنمية الزراعية هذا الأسبوع البدء بتقديم تمويل جديد لما يعرف بالزراعة التعاقدية، وهذه تعد خطوة مهمة وكبيرة في مجال التسويق الزراعي ومبادرة قيمة من الصندوق، غير أن الزراعة التعاقدية مجال كبير، له أبعاد كثيرة وأطراف متعددة وطرق وأساليب تتنوع وتتغير حسب طبيعة المنتجات الزراعية وخصوصية كل دولة.
في السياق نفسه، أطلقت وزارة البيئة والمياه والزراعة، قبل بضعة أشهر، برنامجا لإدارة الزراعة التعاقدية في مجال زراعة القمح، حيث يستطيع مزارعو القمح إبرام اتفاقيات مع شركات زراعية مختصة لإدارة مزارعهم المنتجة للقمح.
هنا سنقوم أولا بتعريف الزراعة التعاقدية، ونلقي نظرة سريعة على تجارب بعض الدول فيها، ومن ثم ننظر إلى مدى مناسبتها للقطاع الزراعي في المملكة، وأخيرا نحاول طرح بعض الملاحظات والمقترحات التي من الممكن أن تساعد على إنجاح هذا الأسلوب الجديد في المملكة.
الزراعة التعاقدية تعني، قيام المزارعين بإبرام اتفاقيات مع أطراف أخرى، مثل المصدرين ومصانع إنتاج الأغذية وكبار تجار الجملة، الذين في نهاية الموسم يقومون بتسلم المنتجات الزراعية محل العقد والتصرف بها. ويتم ذلك بالاتفاق على كميات وأسعار محددة وحسب مواصفات معينة، وبالتزام كامل من جميع الأطراف، وهذا خيار مختلف عن مجرد طرح المنتجات في السوق والحصول على أسعار متقلبة ومخاطر عالية.
هذه الفكرة قديمة ومتعارف عليها ومطبقة بدرجات متفاوتة من النجاح في دول كثيرة، وهي ناجحة بشكل كبير في تسويق المنتجات الحيوانية والسمكية خصوصا، كما في منتجات الدواجن في البرازيل، حيث تمثل التعاقدات 75 في المائة من حجم السوق، أو لحوم الأبقار في أمريكا، أو كما في كينيا، حيث يتم تسويق الشاي والقهوة بنسبة 60 في المائة عن طريق التعاقدات. والأمثلة كثيرة ومتنوعة في منتجات مثل الأرز والقطن والسكر والمطاط وزيت النخيل والتبغ والطماطم والبرتقال. ويمكن الرجوع إلى دراسة مصرية من معهد التخطيط القومي تحتوي على أمثلة تفصيلية من عدة دول.
ما يهمنا هنا في هذا المقال هو، محاولة استشراف مستقبل الزراعة التعاقدية في المملكة، على ضوء المبادرتين المطروحتين في مجال إنتاج القمح والمنتج التمويلي الجديد لصندوق التنمية.
أولا، بخصوص برنامج إدارة الزراعة التعاقدية لمزارعي القمح، فمن الممكن أن يكون نواة جيدة لمفهوم الزراعة التعاقدية، وبنجاحه يمكن تعميم الفكرة لتشمل منتجات أخرى. هذا البرنامج أخذ أسلوب الزراعة التعاقدية الإنتاجية، وليس أسلوب الزراعة التعاقدية التسويقية، وهناك فارق كبير بين الطريقتين. الطريقة الإنتاجية تعني، أن المشتري في هذه الحالة، شركات زراعية كبرى، تقوم بإدارة الإنتاج والإشراف عليه، لذا سمي البرنامج برنامج إدارة الزراعة التعاقدية، وهذا الأسلوب له جوانب إيجابية وسلبية في الوقت نفسه.
أسلوب التعاقد الإنتاجي يعني، أن المزارع يكون مسؤولا عن توفير المزرعة، بطبيعة الحال، والعمالة والتجهيزات الأساسية، وتقوم الشركة الزراعية المتعاقدة بالصرف على الدورة الإنتاجية وتوفير جميع مستلزمات الإنتاج، حيث تضمن الجودة ووقت الإنتاج، والأهم من ذلك أن تكلفة الإنتاج بالنسبة إليها تكون واضحة، وبالتالي تستطيع ممارسة عملها التجاري بوضوح ومخاطرة محدودة. هذا هو المفهوم العام للزراعة التعاقدية بأسلوب الإنتاج، والسؤال هو - بالطبع - عن مدى ملاءمة ذلك لمجال زراعة القمح، الذي يتم بخصوصية معينة في المملكة تختلف عن بقية المحاصيل الزراعية.
أما أسلوب الزراعة التعاقدية التسويقية، الذي يبدو أنه المستهدف من قبل صندوق التنمية الزراعية ومنتجه التمويلي الجديد، فهو مجرد اتفاق بين المزارع والمشتري يتحدد فيه المنتج والكمية والسعر ووقت التسلم، بينما يقوم المزارع بعملية الإنتاج وحده دون تدخل ولا مساعدة من المشتري. في هذه الحالة، يعد المنتج التمويلي للصندوق عبارة عن دعم للمزارع للدخول في هكذا اتفاقيات، حيث يقوم الصندوق بتمويل المزارع بحد أقصى 85 في المائة من تكلفة العقد، ويقوم المزارع بتقديم أي من الضمانات التقليدية التي يتعامل بها الصندوق، أو التنازل عن إيرادات المشروع لمصلحة الصندوق. مرة أخرى، مبادرة الصندوق قد تكون لبنة ثانية في طريق إنجاح الزراعة التعاقدية، لكن لا يزال هناك عدد من التساؤلات والمقترحات نتطرق إليها فيما يلي.
سبب نشأة الزراعة التعاقدية هو، أن المزارعين في كل مكان حول العالم يعانون صعوبة تسويق منتجاتهم بطريقة شفافة وعادلة، إلى جانب نقص الموارد المالية لديهم للمخاطرة في دورة إنتاجية جديدة وسط تقلبات حادة في الأسعار، لذا جاء أسلوب الزراعة التعاقدية كأحد الحلول. بالمقابل، هناك كذلك إشكالية كبرى لدى المصدرين ومصنعي الأغذية وكبار التجار في أنهم لا يستطيعون ضمان توافر المنتجات اللازمة ولا جودتها ولا مناسبتها للمستهلكين، من خلال أساليب الإنتاج التقليدية. على سبيل المثال، هناك مصانع بحاجة إلى كميات محددة وأصناف معينة من البطاطا أو البصل أو الطماطم، وتحتاج إليها في أوقات محددة تتناسب مع دورة الإنتاج المصنعي لديها.
في المملكة، لدينا إنتاج زراعي كبير ومتنوع يشمل النباتي والحيواني والسمكي، وتوجد لدينا سوق استهلاكية كبيرة جدا، إضافة إلى مشاركتنا في سد احتياجات بعض الدول المجاورة، ورغم ذلك يعاني كثير من المزارعين مشكلة تسويق منتجاتهم بالشكل المطلوب. لذا، من المتوقع للزراعة التعاقدية، متى تم تطبيقها بشكل صحيح، أن تحقق نتائج إيجابية للمزارعين وللمستهلكين. التطبيق الصحيح للزراعة التعاقدية يتم من خلال تشكيل تجمعات للمزارعين، وقد تفي الجمعيات الزراعية بهذا الغرض، والسبب هو أنه من الصعب على الجهة المتعاقدة التعامل مع عدد كبير من المزارع الصغيرة، فالأفضل أن يتم ذلك من خلال أطراف داعمة للمزارعين.
الأمر الآخر هو، أن التعاقدات يجب أن تتم بشكل إلكتروني، وتكون بمواصفات وشروط ثابتة، وهنا يأتي دور الصندوق الزراعي أو وزارة الزراعة في لعب دور الوسيط الضامن للعقد. وهذا في الواقع هو، الذي يتم في بورصات السلع الزراعية المستقبلية، في نيويورك وشيكاغو ولندن وسنغافورة، حيث تلعب دور الضامن، إلى جانب لعبها دورا مهما آخر، وهو دور التسعير العادل. كيف؟
من المهم التنبيه إلى أن العقود يتم إبرامها من خلال بورصة السلع المستقبلية بطريقة تنافسية وشفافة وفورية، ومن ثم بعد إنشاء العقود يمكن تداولها بيعا وشراء بين المتعاملين. مثلا، يقوم المزارع بفتح عقد إلكتروني والحصول على أفضل سعر متاح، ومن ثم يستطيع المشتري لاحقا بيع العقد لطرف آخر، وكذلك يستطيع المزارع بيع مزيد من العقود إن تبين له وفرة في الإنتاج، أو يشتري عقودا أخرى ليقلص من حجم الالتزام عليه، وهكذا.
ختاما، مبادرة الزراعة التعاقدية خطوة مهمة، ونجاحها الآن سيفتح المجال نحو نجاحات أكبر وأشمل في المستقبل القريب - إن شاء الله.

إنشرها