Author

شركة تطوير السودة .. ذلك الحلم

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
لا يمكن لأحد وصف تلك اللحظات عند مغيب الشمس والسحاب كموج البحر يرتطم بالجبال الشاهقة. منظر تتسابق فيه الألوان، بشكل يحبس الأنفاس، وكأنما الزمن يتوقف، فلا تسمع همسا، حتى الطيور تقف بجوارك متأملة تلك اللحظة الفاتنة، فتنة تأسر كل من يشاهدها لتبقى في ذاكرته تدعوه إلى العودة، فيعود، هذه هي "المليحة في الخمار الأسود"، التي أذهلت العابد عن صلاته، والسائر عن مقصده، فما مر من أحد هناك إلا أجبرته على التوقف في ذهول من تلك الفتنة الخالدة. هي السودة، التي ليست مجرد مكان، بل لحظات من مشاعر إنسانية تغمرك، وتسجل في ذاكرتك قصة خاصة لك لا يعرفها إلا أنت، علاقة عشق، بين الإنسان والزمان والمكان، فلكل من مر على السودة قصة، في مكان ما منها وفي لحظة من الزمن، وإذا عاد إلى السودة أعادت بسحرها تلك اللحظات، فتشعر بالمشاعر نفسها، وتسمع الأصوات نفسها، فكأنها سجل للمشاعر الإنسانية قادرة على استعادة اللحظات.
لا شك أن أرضا مثل هذه تحتاج إلى فكر مختلف، وللحقيقة فقد كانت جهود الحكومة السعودية في الاهتمام بهذا المكان مشهودة منذ تولى الأمير خالد الفيصل إمارة المنطقة، وتلك القوافي والترانيم التي يرددها كل من ترقى صعودا للجبال، يقول: "أنورت سودة عسير بطلعتك وازهرت من وطيتك خدانها". وبينما يردد الواحد منا تلك الترنيمات، يشعر بأن الجموع الصاعدة إلى هناك ترددها معه. فقد استطاع الأمير خالد أن يصنع من السودة أيقونة سياحية خالدة، والمشهد يبدأ من منتجع أبها الجديد، المطل على بحيرة السد القديمة، مع المسار الصاعد إلى جبل السودة، تزاحمك للوصول إلى هناك قرى عسير، فالطرق المعبدة إلى كل بيت، والمسارات المتعرجة بين القرى والجبال والأودية، تمثل رحلة سياحية تمنعك وتأسرك عن الوصول إلى هدفك في أعلى السودة. وتمضي بك الأيام كلما صعدت إلى الجبل، تأسرك القرى عن مسارك بتعويذات الحب والفتنة، لكن مع كل هذا الجمال الطبيعي، لم تتحول السياحة إلى صناعة، رغم الجهود التي بذلت لتحقيق ذلك الحلم.
الصناعة تعني تسخير الأرض والآلة والعمل من أجل صنع قيمة للإنسان، هذه القيمة تسمى في علم الاقتصاد، الثروة، فالثروات السياحية الكامنة في أرض السودة بقيت عقودا طويلة مجرد كنز مدفون، كمهرة لم تروض بعد، أرض صالحة لم تستصلح بعد، والسبب - في رأيي - هو غياب مفهوم التنوع الاقتصادي من قاموس التخطيط الاقتصادي السعودي في فترة ما قبل رؤية المملكة 2030، عندما كان النفط يكفي للتنمية، لكن في فترة ما بعد الرؤية 2030، أصبح التنوع الاقتصادي المرتكز على التشغيل الكامل للموارد الاقتصادية هدفا بذاته، فالسياحة الحقيقية التي تبنى على المزايا النسبية للموقع وتوجد في نفس السائح ذكريات لا تنسى، تجعله يتطلع دوما إلى العودة وإحياء اللحظات المدفونة في المكان، وهذه المزايا التي تجعل السودة مكانا مثاليا للاستثمار السياحي المستدام، وقد جاء إطلاق شركة تطوير السودة بمنزلة بعث لكل الطاقات الاقتصادية الكامنة في المكان والزمان.
شركة تطوير السودة كواحدة من بين عدة شركات لصندوق الاستثمارات العامة، تمثل تحولا تاريخيا في عمر وتاريخ المنطقة، بل تحولا في مفهوم السياحة في دول الخليج العربي، وقد نكون أمام تجربة لا تقل ثراء عن تجربة السياحة في جبل لبنان. وهذا التصور السياحي كان واضحا مع إطلاق شركة تطوير السودة برأسمال 11 مليار ريال، كما أن السودة في تعريف الشركة ليست منطقة الجبل فقط، بل تمتد إلى القرى والسهول حتى الآثار التاريخية في رجال ألمع والأسواق الشعبية التي طالما التقت قوافل التجار مع المزارعين فيها. لقد أكدت التجربة الأولية لموسم السودة أن السياحة التي يخطط لها الأمير محمد بن سلمان، هي تجربة فريدة من نوعها في المنطقة، بل العالم العربي كله. تجربة أن تعيش في شاليهات فوق السحاب مباشرة، وبمعنى الكلمة، فالسحاب والسماء من كل جانب، وسترى بحر السحاب الذي يجري من تحت الشاليهات المرفوعة فوق المنصات كأنما ترى البحر في جزر الكاريبي وجرز المالديف، وترى الغروب بصورة لم ترها من قبل، وأنت تسير من بين تلك الشاليهات المعلقة فوق بحر السحاب نحو أرقى المطاعم العالمية، تجد نفسك كأنك في عالم فنتازي من صنع أفلام هوليوود وقصص بلاد العجائب. إنه الاستثمار السياحي الفريد من نوعه، الذي سيغير حتما من تفاصيل المنطقة، ويوجد أكثر من ثمانية آلاف وظيفة، ليبقى الأمل في أن تستجيب جامعة الملك خالد لهذه التحولات الاستراتيجية، وتحسن استثمار الفكر والعلم والمنطقة التي استأثرت بها بين أحضان طبيعة في منطقة القرعاء السياحية.
إنشرها