Author

التعلم من الأصغر سنا

|

يضخم المثل المعروف "أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة" من حجم الحكمة التي تمنحها الأعوام، وهذا أمر لا غبار عليه، لكن ظروف العمل والتجارب الحياتية مختلفة بعض الشيء. عندما نتحدث عن التعلم من الأصغر سنا أثناء العمل فهناك جانبان مهمان يستحقان النظر. الأول: هل يعد هذا الموضوع أمرا مهما؟ ولماذا؟ والثاني: هل يمكن أن يختلف هذا الأمر عن التعلم الطبيعي من الأكبر سنا؟ والجواب باختصار: نعم، هو أمر مهم، ونعم، التعلم من الأصغر سنا قد يكون مختلفا عن التعلم من الأكبر سنا. أهمية هذا الأمر بالمناسبة تعمل بكلا الاتجاهين، تعلما من الأصغر سنا، وتعليما للأكبر سنا. أي إن المهارة التي نتحدث عنها هنا مهارة هي ضرورية للجميع.
من ينظر إلى واقع توزيع الأعمار والتركيبة السكانية يعرف أن بيئات العمل لدينا تعج بمن يعدون نسبيا من صغار السن خصوصا على المستوى القيادي، وهذا يعني توزيعا مختلفا لمستوى المعرفة المتاحة لموظفي المنشأة، فلا يملك الأكبر سنا بالضرورة خبرة نوعية متراكمة بل قد يكون المعتاد عكس ذلك. إضافة إلى ذلك، طبيعة الحياة التقنية وتغيراتها الجديدة وتجدد قنوات المعرفة بشكل مستمر يجعل آلية البناء المعرفي مختلفة، هذا لا يجعل المتلقي معرفيا أصغر سنا بالضرورة، وهذه هي الصورة النمطية والواقع الذي اعتادت عليه المجتمعات في أعوام مضت. الأمر الآخر، إن الخبرة النوعية التي يمكن نقلها للآخرين لم تعد فقط حصيلة الأعوام الطويلة، وإنما هي نتيجة لأسلوب التعلم المسرع، سواء باستخدام المهارات الذاتية أو التعليم المهني المنظم أو التجارب العملية المرنة والمتنوعة، وهذا يصنع فوارق معرفية ومهارية كبيرة لا تعترف بالعمر وإنما بمجموع المعرفة والمهارات المتاحة للاستخدام.
الحالة الاستثنائية التي يكون فيها الأصغر سنا أفضل مهارة ليست أمرا جديدا، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ولى أسامة بن زيد أمارة الجيش وقال عنه: "خليقا بالإمارة"، وهذه إشارة واضحة إلى الجدارة، وقس على ذلك عددا كبيرا من المربين والعلماء والقادة الشباب على مر التاريخ، واليوم أصبح بزوغ نجم أصحاب المهارة أمرا أكثر انتشارا ولا يرتبط بالعمر بالقدر نفسه الذي كان عليه قبل بضعة أعوام مضت. ولهذا من الضروري التعرف على أبرز ما يواجه الفرد – معلما أو متعلما – أثناء الممارسات حينما يكون الفارق العمري عكس المعتاد.
مع إقرار كثيرين بأن التعلم من الأصغر سنا أمر عادي وقد يحصل في مختلف الظروف إلا أن كثيرين لا يتقبله وقت الممارسة بسهولة، منهم من يتعامل معه وكأنه أمر غريب أو عار، وهو ليس كذلك. وهنا نتحدث عن القبول الحقيقي للتنوع العمري الذي يعد أمرا أكيد الحدوث في ممارساتنا العملية. من ميسرات القبول لهذا الأمر، هو أن التعلم من الأصغر سنا لا يتعارض مع الاحترام الذي تفرضه علينا قيمنا الأخلاقية للأكبر سنا. الاحترام الذي يوجبه علينا الشرع والإطار الأخلاقي الذي نستند إليه مقدم عند التعامل، بغض النظر عن اتجاه التعلم الذي يحصل بين أي فردين، كبير لصغير أو صغير لكبير.
من المهم كذلك تقدير المنظور الشخصي المختلف الذي قد يكون مميزا عند أي فرد. الحقيقة كما نعرفها تنبع من تصوراتنا الخاصة بنا، بينما جزء كبير من رحلة التعلم في الحياة قائمة على معرفة تصورات الآخرين، بغض النظر عن أعمارهم. لهذا، لا ينحصر التعلم من الأصغر سنا عند الحالات التي يكون فيها الأصغر متعلما بشكل أفضل أو حائزا شهادة أو تجربة حياتية مختلفة فقط. وهذا يعود بي إلى نقطة مهمة مرتبطة بتعظيم قيمة تجاربنا الحياتية وتحسين طريقة تراكم الخبرات، فالقدرة على المشاهدة والملاحظة بنية التعلم تتحسن بشكل كبير إذا حاول الشخص فهم ما يحدث حوله بشكل أفضل، وهذا يشمل ما يحدث من الجميع، بغض النظر عن العمر. نعرف أن من أساسيات التفاوض ومن مهارات القيادة معرفة المنظور الذي يستخدمه الغير عند التعامل مع أمر ما، وهذا يتطلب تواضعا كبيرا للتعلم والفهم.
من المميز كذلك عندما يستفيد الأكبر سنا من حنكته التي نضجت على مر أعوام ويكمل بها معرفة وذكاء الأصغر سنا المتنامية، وهذا إن حصل فهو اندماج مثالي ومفيد لهم كأفراد وللمنشأة التي يعملون بها. يتميز الأكبر سنا في العادة بهدوء وجدية ومستوى أعلى من الانضباط التفكيري، وهذا خير ما يجتمع مع المعارف والمهارات الجديدة المتسارعة. وهو يمثل تذكيرا للصاعدين الجدد بأن تفوقهم المعرفي والمهاري والوظيفي لا يعني أن نقل المعرفة أو التوجيه أو حل المشكلات يحصل دون اعتبار للفروق العمرية، فكما نطلب من الأكبر سنا أن يتقبل ويتعلم مهارة التعلم من الأصغر سنا، فالأصغر سنا يجب أن يجيد القيام بدوره التعليمي التكاملي بأفضل شكل ممكن. من الجيد أن نتذكر أننا جميعا سنصبح أكبر من غيرنا ذات يوم، حتى هؤلاء الأصغر سنا، سيجدون أنفسهم بعد أعوام قليلة وبلمح البصر وهم يتعلمون ممن هو أصغر منهم كذلك.

إنشرها