Author

ركود السياحة العالمية

|

شهد قطاع السفر والسياحة العالمي منذ الحرب العالمية الثانية حتى ظهور جائحة كورونا نموا قويا وشبه مستمر. ويرجع ذلك إلى تيسر التنقل الناتج عن التقدم التقني الذي شهدته وسائل المواصلات (الطائرات بوجه خاص)، وكذلك نمو دخول وعدد سكان العالم، وانتشار التعليم والخدمات العامة الأخرى، وانفتاح الدول على السياحة، والسلام والاستقرار الذي شهده معظم العالم، وتحسن البنية الأساسية السياحية والقطاعات المساندة لها. ونتيجة لهذا النمو تصاعد دور قطاع السفر والسياحة في الاقتصاد العالمي حتى وصل أوج قيمته في 2019 قبل بدء جائحة كورونا المستجد. بلغ ناتج قطاع السفر والسياحة نحو 8.9 تريليون دولار في 2019، وهو ما يمثل 10.3 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. وتشير بيانات المجلس العالمي للسفر والسياحة، إلى مساهمة القطاع في توفير وظيفة من كل عشر وظائف على مستوى العالم أو ما يقارب 330 مليون وظيفة. وجاء القطاع كأكثر القطاعات عالميا إيجادا للوظائف خلال الأعوام الماضية، حيث ولد ربع الوظائف العالمية خلال الأعوام الخمسة السابقة للجائحة. وعلى الرغم من المساهمة الهائلة للسفر والسياحة في الاقتصاد العالمي إلا أن الدول السياحية الكبرى على مستوى العالم عانت الجائحة أكثر من غيرها.
تعرض قطاع السفر والسياحة العالمي إلى ضربة موجعة وشبه قاصمة من جراء اجتياح جائحة كورونا المستجد لدول العالم، بل كان أكثر القطاعات تضررا بالجائحة. وتأثرت ما يقارب 143 مليون وظيفة حول العالم بالجائحة وما زالت الجائحة تهدد بفقدان كثير منها. ويعمل في هذا القطاع كثير من الأعمال الصغيرة والمتوسطة وتشكل النساء أكثر من نصف إجمالي عامليه، كما يرتفع فيه توظيف الشباب. تسببت أزمة كورونا في فقدان القطاع 43 في المائة من ناتجه المحلي العالمي، أو ما يقارب 3.8 تريليون دولار. وتراجعت السياحة الدولية أكثر بكثير من السياحة المحلية، حيث فقدت 65 في المائة من عدد القادمين في 2020، بينما فقدت السياحة الداخلية نحو 33 في المائة. ويعود هذا بالطبع إلى أن القيود العالمية والحجر الصحي يفرضان بدرجة أقوى على القادمين من خارج الدول. وهناك مخاوف بتفاقم خسائر الجائحة إذا لم يحدث تحسن خلال هذا العام. وتشير توقعات المؤسسات الدولية، إلى أن قطاع السفر والسياحة لن يعود إلى مستويات 2019 قبل عدة أعوام. ويقدر بعض المصادر أن قطاع السفر الجوي يحتاج إلى خمسة أعوام للعودة إلى مستويات 2019. وتواجه صناعة الطائرات المتأثرة بتراجع الطلب السياحي مصاعب كبيرة في الوقت الحالي والمستقبل القريب.
ارتفعت معاناة الدول المعتمدة على السياحة أكثر من غيرها، وكلما ارتفع اعتماد الدولة على السياحة والسفر ارتفعت خسائرها من الجائحة. ومن المتوقع أن تفقد الدول الإفريقية ودول البحر الكاريبي المعتمدة على السياحة ما يقارب 12 في المائة من نواتجها المحلية. وقد تتفاقم الآثار السلبية للجائحة في بعض الدول والجزر المعتمدة على السياحة، كجزر المحيط الهادئ إلى أكثر من 20 في المائة من نواتجها المحلية. سيواجه عديد من الدول عالية الاعتماد على السياحة والسفر مصاعب اقتصادية جمة، وستحتاج إلى مزيد من دعم الدول المانحة والمؤسسات الدولية. هذا لا يعني أن باقي الدول بمنجى عن الآثار السلبية لتراجع القطاع، حيث واجهت وستواجه المقاطعات والمناطق والمدن المعتمدة على قطاع السفر والسياحة وعمالته داخل دول العالم كافة مصاعب كبيرة.
نظرا للظروف الصعبة التي يمر بها قطاع السفر والسياحة والقطاعات المرتبطة يوصي عديد من المختصين بتعامل خاص لإنقاذه من الركود. وقاد التراجع الحاد للإيرادات السياحية وسلبية النظر المستقبلية للقطاع، إلى إحجام القطاع المصرفي عن تقديم الائتمان للقطاع السياحي ما ضاعف مصاعبه. وقدم عديد من الدول مساعدات للقطاع لمساعدته على تجاوز الأزمة والحفاظ - قدر الإمكان - على وظائفه. وجاء الدعم بشكل مباشر وغير مباشر، حيث قدم عديد من الدول منحا، وائتمانا ميسرا، وضمانات ائتمان، وخصوما ضريبية، ومعونات للكيانات الصغيرة والمتوسطة وخطوط الطيران. ولا يزال القطاع بحاجة إلى الدعم، وعلى الدول أن تستمر في دعم هذه القطاعات وتطوير وسائل وسياسات دعم وتكيف إضافية قدر الإمكان.
تتطلب الأوضاع الحالية من القطاع السياحي التكيف مع المتغيرات والسعي بدرجة أقوى إلى خفض التكاليف والاستخدام المتزايد للتقنية لزيادة الإنتاجية. ويتوقع البعض أن تكون لجائحة كورونا آثار طويلة الأجل في قطاع السفر والسياحة، حيث تميل موازين المتغيرات نحو السياحة الداخلية أو المحلية على حساب السياحة الدولية، ما سيضعف قطاع نقل الركاب الجوي والبحري الدولي لأعوام مقبلة، ويخفض بالتالي الإنفاق السياحي الأجنبي. كما قد تشهد السياحة البيئية والريفية طفرة أكثر من غيرها، ما سيرجح الكفة السياحية للدول والمناطق المعتمدة عليها. وتتحمل الدول تكاليف باهظة لتقديم الدعم المالي للنهوض مجددا بالسياحة، لكن المال وحده ليس كافيا للنهوض بهذا القطاع، حيث يبدي القطاع السياحي حساسية عالية تجاه السياسات والمجالات الأخرى المتعلقة بالتأشيرات والأوضاع الصحية والإجراءات الإدارية والأمنية وخدمات الضيافة وبروتوكولات السفر المطلوبة في كل دولة. وعلى الدول أن توازن بشكل سليم بين إجراءات ومتطلبات التأشيرات والسفر وبين ثقة المسافرين بحفاوة الدول وسلامتها من مخاطر الأوبئة أو أي مخاطر أخرى.

إنشرها