Author

العجوزات المالية الاستثنائية

|
تواجه دول العالم ظروفا استثنائية منذ بداية العام الجاري 2020 بسبب أزمة جائحة كورونا. في بداية الأزمة أوصى الخبراء الصحيون بضرورة تبني إجراءات الحجر الصحي وإغلاق كثير من الأنشطة للحد من سرعة انتشار الجائحة، ومنع انهيار الأنظمة الصحية حول العالم. تبنت الدول إجراءات طارئة لمواجهة الجائحة وآثارها الكارثية في الصحة العامة والاقتصاد. نتج عن هذه الإجراءات ما سمي بالإغلاق العظيم. وأدى الإغلاق إلى تراجع غير مسبوق في الأنشطة الاقتصادية وإيرادات الحكومات لدول العالم التي كانت مطالبة في الوقت نفسه بتأمين الموارد المالية لتغطية تكاليف سياسات التصدي للجائحة ومنع حدوث كساد اقتصادي، وكذلك تقديم العون والمساعدة للعائلات والأفراد والأعمال. وقادت هذه التطورات إلى ارتفاعات قياسية في العجوزات المالية حول العالم.
عانت معظم دول العالم، خصوصا الدول المتقدمة، قفزات كبيرة في أحجام العجوزات المالية إلى مستويات قياسية في 2020. ويستشرف صندوق النقد الدولي حدوث ارتفاعات حادة في أحجام العجوزات المالية وارتفاع نسبها إلى الناتج المحلي الإجمالي لدى معظم دول العالم هذا العام. وتشير توقعات الصندوق إلى وصول نسب العجوزات المالية في 2020 لدى كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا واليابان إلى 16.7 في المائة، 15.5, 19.8 في المائة، 13.9 في المائة من نواتجها المحلية على التوالي. وستعاني حتى الدول التي تملك احتياطيات نقدية أجنبية هائلة كالصين، تصاعد العجز المالي فيها حيث سيصل إلى نحو 10.9 في المائة من ناتجها المحلي. أما على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، فستسجل الكويت هذا العام أعلى عجز مالي بين دول المجلس، حيث سيصل إلى نحو 22.4 في المائة من ناتجها المحلي، كما ستسجل عمان عجزا ماليا نسبته 16.5 في المائة من ناتجها المحلي. وستسجل الإمارات العربية المتحدة عجزا ماليا نسبته 9.7 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي، بينما تشير بيانات الميزانية إلى أن المملكة ستسجل عجزا ماليا نسبته 12 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام.
رغم تفاقم العجوزات المالية في دول العالم، خصوصا المتقدمة فإن معظم المؤسسات الدولية والخبراء ما زالوا يوصون بضرورة الاستمرار في سياسات التصدي للأزمة والتحفيز الاقتصادي وعدم الانسحاب مبكرا منها خوفا من الديون. وكانت المؤسسات نفسها بما فيها صندوق النقد الدولي تحذر الدول، خصوصا النامية، من تفاقم العجوزات المالية، وتوصي بسياسات التشدد المالي وشد الحزام. يبرر الصندوق توصية الاستمرار في سياسات التيسير المالي بضرورة تفادي تباطؤ الاقتصاد العالمي ومنع العودة إلى الانكماش في الأجل القريب.
يرى المختصون أن دول العالم تواجه خيارات متفاوتة فيما يتعلق بسهولة الاقتراض. وتتمتع الدول المتقدمة والغنية بمزايا ائتمانية تمكنها من استدانة مزيد من الأموال بتكاليف منخفضة. لهذا تنخفض مخاطر تعاظم حجم ديونها مقارنة بمخاطر الركود الاقتصادي فيها. وعلى كل حال، فإن حجم الديون العالمية كان مرتفعا قبل الأزمة حيث وصل إلى نحو 83 في المائة من الناتج المحلي العالمي عام 2019، وزيادته بعدة نقاط لن تغير كثيرا من وضع الديون.
يمكن للولايات المتحدة ومجموعة اليورو واليابان أن تستمر في الاستدانة أكثر من الدول الأخرى لعوامل متعددة أهمها ضخامة وأهمية اقتصاداتها والثقة التي تبديها الأسواق تجاه هذه الاقتصادات. وجاءت هذه الثقة ثمرة عديد من السياسات الحصيفة طويلة الأجل التي من أبرزها استقلالية البنوك المركزية، وعمق الأسواق المالية، وشفافية السياسات والبيانات المالية والاقتصادية، وانخفاض معدلات التضخم. ومكنت هذه السياسات الدول المعنية من الاقتراض بفوائد منخفضة وارتفاع الطلب على سنداتها المصدرة بعملاتها الوطنية. وتحظى البنوك المركزية في هذه الدول بثقة الأسواق، ما مكنها من سياسات التيسير الكمي التي ساعدت كثيرا على تسهيل اقتراض الحكومات وتدفق جزء كبير من ديونها للبنوك المركزية، ما خفف ضغوط الديون على الحكومات.
رغم تصاعد إجمالي الدين العالمي لنحو إجمالي الناتج المحلي العالمي إلا أن الخبراء لا يرون ضرورة للانسحاب من سياسات التيسير المالي على الأقل حتى نهاية 2021، وذلك لضمان خروج الاقتصاد العالمي من حالة الركود وعودة النمو الاقتصادي العالمي الذي سيجلب الاستقرار لمستويات الديون. وهذا يعني استمرار مستويات العجز المالي عند مستويات مرتفعة العام المقبل، لكن بمعدلات تقل عن نسب عام 2020. وسيمكن مواصلة الاقتراض الدول من مواجهة تبعات أزمة كورونا والاستمرار في دعم الأسر والأفراد الأكثر احتياجا والقطاعات الصحية والتعليمية وسياسات التصدي للفقر. ويرى المختصون أهمية تخصيص موارد إضافية لمشاريع البنية الأساسية التي ترفع الكفاءة ومعدلات النمو الاقتصادي أكثر من غيرها.
إنشرها