Author

الجائحة تعمق جراح الفقراء

|

تحدث مصيبة الفقر وحدها كثيرا من الجراح في حياة المعوزين، لكن الكوارث والنوازل التي تعصف بالمجتمعات تعمقها وترفع معاناتهم. وولدت جائحة كورونا آثارا كارثية في مختلف أصقاع الأرض ومجتمعاتها، لكن الفقراء تكبدوا بسببها خسائر أكثر من غيرهم. وتشير بيانات الدول - التي تتوافر بها الشفافية وترتفع الثقة بمعلوماتها - إلى ارتفاع معدلات إصابات الجائحة في المناطق والأحياء الفقيرة، وتفاقم الوفيات بها أكثر من غيرها. يعود ارتفاع معاناة الفقراء ومنخفضي الدخل من الجائحة إلى ظروف وبيئة الفقر وحالة الفقراء ونقص مواردهم وإمكاناتهم ونفوذهم.
تنخفض مهارات العمل لدى الفقراء ومنخفضي الدخل، ما يضطر معظمهم للعمل في مهن منخفضة الأجر تتطلب التواصل والوجود في أماكن العمل، كأنشطة تجارة تجزئة المواد الغذائية والتوصيل، التي استمر عملها أثناء الحجر المنزلي. ويعاني الفقراء ومنخفضو الدخل أيضا تراجع خيارات العمل عن بعد وتوفير حتى دخول جزئية، ما يجبرهم على المخالطة بدرجة أكبر ويعرضهم للعدوى أكثر. كما تنخفض مدخرات الفقراء وثرواتهم وقد تنعدم، ما يجبرهم على مواصلة العمل أثناء الحجر لتوفير لقمة العيش والتعرض لمخاطر الإصابة بدرجة أكبر. إضافة إلى ذلك، يسهم ارتفاع الكثافة السكانية في الأحياء التي ترتفع فيها نسب الفقراء ومحدودي الدخل، وتراجع نوعية الخدمات العامة والخاصة - مقارنة بالأحياء الأوفر حظا - في رفع معدلات العدوى بين قاطنيها. كما يحد انخفاض موارد الفقراء وقدراتهم على توفير متطلبات الوقاية والنظافة، والحماية من العدوى، والحصول على الرعاية الصحية مقارنة بالشرائح السكانية الأخرى من إمكانية حماية أنفسهم.
ترتفع بين الفقراء معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة ما يفاقم عواقب الإصابة بالمرض، خصوصا إذا تزامن مع تراجع جودة خدمات الرعاية الصحية في النواحي والأحياء الفقيرة. كما تعاني الأحياء الفقيرة عادة التلوث أكثر من غيرها ما يرفع معدلات الإصابة بالأمراض التنفسية، وبالتالي تفاقم الأوضاع الصحية للمصابين بالجائحة. من جهة أخرى، قد تتراجع في الأحياء الفقيرة خدمات النظافة والتعقيم ما يرفع معدلات الإصابة.
يقل في الأحياء الفقيرة الوعي والثقافة والمهارات الصحية لانخفاض معدلات أعوام التعليم، إضافة إلى ذلك، قد تزدحم المؤسسات التعليمية في هذه الأحياء أكثر من غيرها فتزيد مخاطر انتشار الجائحة. كما تقل في العادة متوسطات مساحات منازل الأحياء الأقل دخلا فيصعب بدرجة أكبر التقيد بالتباعد الاجتماعي والعزل المنزلي، وبذلك ترتفع مخاطر العدوى. ولا يقتصر الأمر على هذه الأمور فقط، فقد يعاني جزء من الفقراء قصور إمكانات توفير مواد الوقاية والعلاج والنظافة بسبب تراجع إمكاناتهم، خصوصا في الدول والأحياء شديدة الفقر. تتفاقم أوضاع الأحياء الفقيرة والفقراء أيضا لتدني نفوذهم وتأثيرهم في الإدارات العامة والمؤسسات الخاصة وفي صياغة القرارات والسياسات وتفعيلها، ما يخفض فرص تأمين احتياجاتهم من الرعاية الصحية ووسائل الوقاية والعلاج. عموما، فإن وسائل وإجراءات الحد من العدوى أضعف في الأحياء الفقيرة من أحياء عموم السكان.
تتعاظم فرص تعرض الفقراء للعدوى والخسائر البشرية مقارنة بالفئات السكانية الأخرى لانخفاض مرونة أعمالهم ومواردهم وتصرفاتهم في التكيف مع التغيرات التي تسببت فيها الجائحة. وتشير إحدى دراسات صندوق النقد الدولي، إلى تضاعف نسب معدلات إصابة الفقراء والخسائر البشرية بينهم مقارنة بعموم السكان، حيث قد تصل نسب الوفيات بينهم إلى أربعة أضعاف معدلات الوفيات العامة. يضاف إلى ذلك، أن نسب البطالة سترتفع في الأحياء الفقيرة أكثر من غيرها لتراجع مهاراتهم وتراجع الأنشطة الاقتصادية بوجه عام. وبالتالي تواجه اقتصادات المناطق الفقيرة داخل الدول مخاطر أكبر بكثير من المخاطر التي تواجهها المناطق الأوفر حظا بسبب الجائحة. وينخفض الناتج المحلي في المناطق الفقيرة بدرجة أقوى من المناطق الغنية، ليس لتراجع دخول الفقراء فقط، لكن لتراجع إنفاق باقي السكان الأوفر حظا الذي يعد المسؤول الأول عن انكماش الناتج المحلي. وعلى الرغم من أن خسائر الفقراء الاقتصادية النسبية بسبب الجائحة أكبر من غيرهم إلا أن تأثيرهم في الاقتصاد الكلي للدول أقل من تأثير تراجع باقي الشرائح السكانية، حيث سيتسبب إحجام باقي الشرائح السكانية الأوفر حظا في معظم خسائر الانكماش الاقتصادي.
جاءت الجائحة لتؤكد مرة أخرى هشاشة أوضاع الفقراء وبيئاتهم وارتفاع المخاطر الصحية في مناطقهم. وترتفع معاناة الفقراء في أوقات الأزمات وتندفع الأصوات والأقلام المنادية والداعية إلى الالتفات لأوضاعهم ومساعدتهم وتحسين ظروف معيشتهم والرأفة بحالهم، ولكن ما إن تمر الظروف الطارئة حتى تخبو الجهود وتنطفئ شعلة الحماس. ويتطلب التعامل مع المناطق الفقيرة والفقراء عند حدوث الجوائح والأزمات سياسات أكثر خصوصية وتعاطفا مع أوضاعهم، لكن التعامل الفعال وطويل الأمد أجدى سياسة في التعامل مع معضلات الفقر. وتوضح الآثار القوية للكوارث في الفقراء أهمية وضع استراتيجية عامة دائمة وفعالة للتصدي للفقر، وضرورة تسخير موارد ومؤسسات وسياسات كفؤة لتحسين بيئة الفقراء، والبنية الأساسية في مناطقهم، ورفع جودة الخدمات الأساسية التي من أبرزها الرعاية الصحية.

إنشرها