Author

الحياة في أكفان الظلام والصمت والجائحة

|
أستاذ جامعي ـ السويد
أجلس الآن في شرفة منزلي المطل على بحيرة جميلة وساحة خضراء وسيعة. الساعة تؤشر إلى الـ 12 ظهرا. إنه يوم الثلاثاء من كل أسبوع الذي أنكب فيه على كتابة المقال الأسبوعي لصحيفتنا الغراء "الاقتصادية".
الشرفة وسقفها وحيطانها الأربعة من الزجاج المقاوم للبرد. لقد توصلت الصناعة السويدية إلى اختراع مواد بناء توفر عزلا كاملا لدرجة الحرارة والضوضاء والأصوات خارج المنزل.
يحق للصناعة السويدية التباهي بالإبداع الذي توصلت إليه في بناء منازل تعزل قاطنيها عن العالم الخارجي باختلاف درجات حرارته وارتفاع الضجيج ونسب التلوث الذي صار سمة لحياتنا المعاصرة.
ويبدع المهندسون المعماريون السويديون في تصميم المنازل التي رغم مساحاتها الصغيرة، فإنها تبدو كبيرة وفسيحة. ويتفاخر الناس بسعة منازلهم إن قاربت مساحة البناء فيها 100 متر مربع.
ويتبارى الناس في الحصول أو شراء منازل تواجه الشمس، ولا سيما في غروبها. القيمة النهائية لشراء أي منزل تحددها الشمس. كلما زادت مواجهة النوافذ لضوء الشمس ارتفع سعر العقار.
والشمس وما أدراك ما الشمس. لقد صار لها شهر تقريبا وهي متوارية عن الأنظار، ومع مقدم الشتاء وقصر النهار، صرنا بالكاد نميز بين الليل والنهار.
الوقت الظهيرة الآن وأنا في شرفتي التي يحيطها الزجاج من كل جهة، لكن ليس بمقدوري القراءة دون إشعال المصابيح الكهربائية.
نعاني في السويد في هذه الأشهر ما يمكن أن نطلق عليه "عتمة النهار"، حيث يصبح النهار تقريبا امتدادا لليل الدامس.
كان هطول الثلج في السابق - أي: قبل التغييرات المناخية الناتجة عن الاحتباس الحراري - يبعث على البهجة، حيث كان بياض الأرض والأسطح والحدائق والأشجار يعكس أضواء بهيجة ومرحة تعوض بعض الشيء عن غياب الشمس.
وفي الليل كان للثلج رونق بهي وضياء فضي يبددان السواد والظلماء.
الثلج صار شيئا من الماضي، ولم تكتس الأرض به ولو لسويعات في الخمسة أعوام الماضية.
ومن الأمراض التي يعانيها السويديون بشدة، تأتي الكآبة في مقدمتها، وتزداد وطأة في أيام مثل هذه حيث تنعدم الفوارق بين الليل والنهار.
ومع تمدد دجى الليل وتبديده شعاع النهار يحل الصمت المطبق وتزداد الوجوه عبسا وعزفا عن الدخول في أحاديث عابرة عن شؤون الحياة. وكلما زاد وقع الظلام وفقدان أشعة الشمس، زاد شغف وحب الناس لخصوصيتهم والانكفاء على الحديث مع أنفسهم ضمن نطاق العزل الشامل للمنازل الجميلة التي يعيشون فيها. الدخول في نقاش أو حديث مع الآخرين من أجل التسلية أو تمضية الوقت يعد جزءا من التقاليد الثقافية العريقة في كثير من المجتمعات ومنها المجتمعات العربية. في السويد، هكذا نقاش غير مرغوب فيه، ويتجنبه الناس.
أي تواصل مع الآخرين يجب أن يدخل ضمن نطاق الجدية والمهنية التي تربط الناس هنا مع بعضها. خارج نطاق العمل الجدي والمسائل المتعلقة به، بصورة عامة عليك أن تعيش لنفسك ومع نفسك.
حتى إن كنت عذب الحديث، مهذارا، عليك الحذر لأن الناس لا تحبذ الأفكوهة أو الدعابة أو الطرفة حتى إن كانت على مستوى طرق باب زميل لك كي تسعده - حسب تصورك - بتهنئته بمقدم عيد الميلاد أو رأس السنة الجديدة.
ولا تحاول أن تجرب حظك لإدخال السعادة في قلب صاحب محل وأنت تشتري منه بضاعته بإلقاء التحية عليه بابتهاج وانشراح لأنه قد يستقبلك بوجه مكفهر وهو في صراع إن كان عليه رد التحية أم لا، وإن ردها لن تكون بمثلها، بل خافتة وبطيئة وكأن ملتقيها يقول لك: "اهتم بشؤون نفسك. أنت هنا لشراء البضاعة وليس لإلقاء التحية".
وزاد طين ضياء الشمس والسكوت المطبق بلة ووقعا على الناس هنا في هذا الشتاء بعد اعتراف الحكومة بفشل سياساتها وإجراءاتها لاحتواء الجائحة؛ إخفاق نظر إليه كثيرون هنا كأنه إعلان الهزيمة في الحرب بعد اندحار الجند في المعركة.
عام كامل والسويد تتبجح بنموذجها الخاص في احتواء فيروس كورونا القاتل والتعامل معه كأنه فيروس إنفلونزا عادي، ما أثار اندهاش الدنيا وجلب لها كثيرا من المديح لريادتها حتى في مضمار وباء فتاك أدخل الرعب في قلوب سكان الأرض قاطبة.
ورغم أن السويد دفعت ثمنا باهظا من جراء رفضها تطبيق الإجراءات التي حثت عليها منظمة الصحة العالمية في فرض قيود صارمة على التجمع والاختلاط، إلا أن أغلب الناس كانت تؤمن أن بلدها يختلف عن بقية الدول برقيه وتعامله وتحمله المسؤولية.
وإذا بكل هذا البناء الاجتماعي والثقافي ينهار بين ليلة وضحاها بعد ارتفاع عدد الضحايا والمصابين وانتشار الفيروس بشكل مخيف، ما حدا بالحكومة فرض إجراءات صارمة شأنها شأن الدول الأخرى.
ومع هيمنة الظلام حتى في النهار وورود أخبار هزيمة المشروع السويدي الخاص بمقاومة الجائحة، ازداد الناس صمتا واحتماء بهدوء وسكون منازلهم الجميلة.
إنشرها