تغير النظرة لنسبة الدين

تضخمت أحجام الحكومات وتصاعدت أدوارها في السياسات الاقتصادية والاجتماعية خلال العقود الأخيرة. ونتيجة لذلك ارتفعت مصروفات الدول وتسارعت بمعدلات تفوق زيادة الإيرادات العامة، ما ولد العجز المالي والديون الوطنية وفاقمها مع مرور الزمن. لجأت حكومات العالم إلى الاقتراض المحلي والخارجي لتغطية العجز المالي لسهولته وانخفاض تكلفته السياسية مقارنة بزيادة الضرائب، كما أنه أجدى وأسرع في تحفيز الاقتصاد وقت الأزمات الاقتصادية. ومع مرور الوقت تعودت الحكومات والشعوب على سياسة الاستدانة، ما قاد إلى تراكم الديون الوطنية لدول العالم. وأدى نشوب الأزمة المالية العالمية في 2008، إلى حملة تدخلات حكومية ضخمة لإنقاذ الاقتصادات العالمية من الانهيار، ما فاقم الديون العامة في كثير من الدول. وما كاد الاقتصاد العالمي يتعافى من الأزمة المالية حتى ضربت جائحة كورونا الاقتصاد العالمي في مقتل. وأجبر التعامل مع الأزمة الحكومات، على إحداث زيادات إنفاق هائلة ومفاجئة رغم تراجعات الإيرادات الحادة، ما ضخم العجز المالي والديون الوطنية إلى مستويات قياسية.
تعاني دول متعددة ارتفاعا كبيرا في ديونها الوطنية (الحكومية) وتفاقمت أكثر في الآونة الأخيرة حتى في الدول الغنية. فهذه اليابان الدولة المتقدمة والغنية تحتل المركز الأول عالميا في نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي التي وصلت في الوقت الحالي إلى 266.2 في المائة. يلي اليابان في المركز الثاني السودان الذي وصلت نسبة دينه الوطني إلى 259.4 في المائة من ناتجه المحلي، ثم احتلت اليونان ولبنان وإيطاليا المراكز التالية بنسب: 205.2 في المائة، 171.7 في المائة، 161.8 في المائة من نواتجها المحلية على التوالي. لا يقتصر ارتفاع الديون الوطنية على دول معينة، حيث تعاني دول كثيرة فقيرة وصاعدة ومتقدمة تضخمها. ومن أبرز الدول المتقدمة والغنية التي ترتفع ديونها الوطنية الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وكندا التي تصل ديونها الوطنية إلى: 131.2 في المائة، 118.7 في المائة، 114.6 في المائة، 101.4 في المائة من نواتجها المحلية على التوالي. وعلى العموم سترتفع نسبة الدين العالمي الحكومي من 83 في المائة في 2019 إلى نحو 100 في المائة من الناتج المحلي العالمي عن قريب، وسيظل عند هذه المستويات حتى 2025، كما يتوقع صندوق النقد الدولي.
على الرغم من مستويات الديون الحكومية المرتفعة حول العالم، إلا أن الخبراء يركزون حاليا على أهمية الخروج بسلام من الأزمة الاقتصادية الحالية، والاستمرار في سياسات الدعم اللازم لإنعاش وتعافي الاقتصاد العالمي حتى العام المقبل، وإن تزايدت الديون الحكومية. لهذا لا بد من استمرار إجراءات التصدي للأزمة الطارئة التي تتضمن دعم أنشطة الاستهلاك، وقطاعي الرعاية الصحية والتعليم، والأسر والأفراد والأعمال الصغيرة الأشد تضررا بالأزمة. كما أن من الأجدى تجنب إجراءات وسياسات رفع الإيرادات حتى تجاوز المرحلة الحرجة الحالية، ما يعني مواصلة نمو المديونيات الحكومية لبعض الوقت.
تضخم الديون بالنسبة للأفراد والدول ليس شيئا محمودا، ولكن الاستدانة في حالة الضرورة لتجنب الكوارث أو الاستثمار الحصيف الأعلى مردودا أمر مندوب. وتستطيع الدول، كالأفراد، الاستدانة إذا اتصفت سياساتها بالحصافة والقدرة على دفع الدين. واستطاعت دولة مثل اليابان المحافظة على تصنيفات ائتمان مرتفعة جدا على الرغم من تجاوز حجم دينها الوطني عتبة 200 في المائة لعشرة أعوام. ويعود هذا إلى الثقة التي تتمتع بها اليابان واقتصادها بين المقرضين، وإلى كون معظم دينها الوطني بالعملة المحلية ولمواطنيها. وجاءت هذه الثقة نتيجة سياسات الدولة الحصيفة واستقلالية البنك المركزي الياباني الذي يحتفظ بجزء كبير من ديونها العامة، ويشتريها من الأسواق الثانوية. كما تتمتع اليابان بثقة المقرضين بقدرة سدادها المنتظم وشبه انعدام للمخاطر، ما مكنها من خفض تكاليف خدمة ديونها إلى مستويات متدنية. في الجانب الآخر، تعاني دول أخرى أزمة ديون وأغلبيتها دول فقيرة أو صاعدة بسبب تراجع الثقة بقدراتها على الدفع، وارتفاع نسب ديونها المقيمة بعملات أجنبية، وتراجع تصنيفاتها الائتمانية.
ساد في الماضي اعتقاد بضرورة الحفاظ على حد أعلى لنسبة الدين الحكومي للناتج المحلي الإجمالي، وكانت نسبة 60 في المائة حصة آمنة ومستهدفة للديون الحكومية في كثير من الدول. أما حاليا، فيرى كثير من المختصين أن فرض نسبة معينة مثلى لجميع الدول غير دقيق وأن نسبة الدين تتوقف على الدولة، وحصافة إنفاقها وسياساتها المالية، واقتصادها، وأسلوب الاستدانة ومصدره، وتطور وعمق أسواقها المالية وأدوات الدين الداخلية، ومعدلات الفائدة على ديونها. ويتوقف أيضا على قوة وتطور مؤسساتها العامة، واستقلالية البنك المركزي، وانخفاض معدلات التضخم، وشفافية السياسات وسهولة توقعها. فلو كانت الدولة تتمتع بثقة عالية بين المقرضين ومعدلات الفائدة على ديونها منخفضة أو قريبة من الصفر وبالعملة المحلية فيمكنها الاستدانة بنسبة مرتفعة للناتج المحلي الإجمالي. كما أن باستطاعة بنوكها المركزية الاحتفاظ بكميات كبيرة من سنداتها الحكومية من دون خسارة ثقة المستثمرين بأدوات الدين. وهذا ما مكن البنوك المركزية في اليابان وأمريكا وأوروبا من تنفيذ سياسات التيسير الكمي من دون رفع معدلات التضخم. في المقابل، فشل كثير من الدول الصاعدة والفقيرة في كسب ثقة المستثمرين بسياساتها غير الكفؤة الرافعة لمعدلات التضخم والمتسببة في تدهور عملاتها وإعراض المستثمرين عن سنداتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي