Author

استمرار آثار الجائحة

|
يدخل العالم العام الثاني من جائحة كورونا، وما زالت آثارها المدمرة تعصف بالحياة والاقتصاد العالمي. وحقق عديد من دول العالم نجاحات متفاوتة في التصدي للجائحة والسيطرة على انتشارها، بينما تعاني دول متعددة في أوروبا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط والولايات المتحدة موجة الجائحة الثانية التي لا تقل ضراوة عن الموجة الأولى. وأنفق العالم ما يقارب 11.5 تريليون دولار للتصدي للجائحة وآثارها الاقتصادية، ومع ذلك سيتراجع الاقتصاد العالمي بنسبة 4.4 في المائة في 2020. وتشهد دول العالم تعافيا اقتصاديا تدريجيا بدرجات متفاوتة وفاترة في معظم الأحوال. وفي الجانب الإيجابي، نجحت عدة شركات في إنتاج لقاحات للمرض ما سيعزز وتيرة تعافي الاقتصاد العالمي، خصوصا إذا أحسنت الدول إدارة توزيع اللقاحات وتقبلها الناس. وتتوقع معظم المصادر المتخصصة بدء موجة التطعيم ضد المرض على نطاق واسع في الربيع المقبل. وهذا يعني أن على العالم الاستمرار في تطبيق الإجراءات الوقائية الحالية المركزة على التباعد الاجتماعي حتى معظم النصف الأول من العام المقبل. وسيشهد العالم تعافيا اقتصاديا العام المقبل، حيث يتوقع صندوق النقد الدولي نموا بنسبة 5.2 في المائة خلال 2021.
سيستمر تأثير التغيرات والتحولات الاقتصادية
- التي تسببت فيها الجائحة - في التفاعلات الاقتصادية العالمية لأعوام مقبلة. ومن المتوقع تراجع الناتج المحلي للفرد - في معظم دول العالم - عن مستوياته المتوقعة قبل الجائحة لخمسة أو ستة أعوام مقبلة. وسيأتي هذا التراجع لعدة أسباب لعل من أبرزها ارتفاع معدلات البطالة على المستوى العالمي. وأدى الإغلاق العظيم وإجراءات التباعد الاجتماعي إلى ضمور الأنشطة التي تتطلب التواصل المباشر والتنقل البشري، كالسياحة والسفر، وتجارة التجزئة، والخدمات الاجتماعية، وأنشطة التعليم، والترفيه والرياضة، وتقديم الطعام، ما خفض حجمي العمالة والاستثمار في هذه القطاعات. في المقابل، نمت قطاعات أخرى أبرزها التجارة الإلكترونية والاتصالات والتعلم عن بعد، لكن حجم الزيادة في طلب العمالة من قبل القطاعات النامية يقل بكثير عن حجم العمالة التي فقدت وظائفها. من جهة أخرى، يقل متوسط أجور القطاعات النامية عن متوسطات أجور القطاعات المتراجعة. وتمثل الأجور معظم دخول الأسر والشرائح العاملة، لهذا ستتراجع دخول نسبة كبيرة من السكان عن مستوياتها السابقة للجائحة لأعوام عديدة. وستفقد شرائح سكانية معينة - كالنساء والشباب - وظائفها أو تتراجع أجورها بشكل أكبر من المتوسطات العامة للسكان.
لا يقتصر الأمر على تراجع معدلات النمو فقط، فقد أدت الجائحة إلى خروج كثير من الأعمال الصغيرة - التي توظف ملايين البشر حول العالم - وتحملت الأسر ديونا إضافية، ما سيؤثر بشكل سلبي في دخول الأسر المستقبلية. كما قادت الجائحة إلى تأثيرات سلبية في التعليم والتدريب عبر العالم، وهو ما أضر بالتنمية البشرية وإنتاجية العمالة في الأمد المتوسط، خصوصا في الدول النامية، ما سيثبط احتمالات نمو الأجور خلال الأعوام المقبلة. من جهة أخرى، ضغطت الجائحة على الموارد الصحية مخفضة مستويات الرعاية الصحية لبعض الأمراض المستعصية والمزمنة، وهذا سيؤثر سلبا في دخول ورفاهية جزء لا يستهان به من السكان. قادت هذه التطورات إلى زيادة وتيرة تراجع عدالة توزيع الدخول المتراجعة قبل الجائحة، وارتفاع معدلات الفقر والفقر المدقع في عدد من دول العالم، ما سيولد مزيدا من التوترات الاجتماعية والسياسية خلال الأعوام المقبلة في عدد من الدول.
خفض الإغلاق العظيم والتراجع الاقتصادي الإيرادات الحكومية بشكل كبير، كما رفعت إجراءات التصدي للجائحة لحماية المجتمعات والاقتصادات من الانهيار الإنفاق الحكومي بقوة. ونتج عن هذا صعود قياسي لمعدلات العجز المالي عبر العالم وارتفاع غير مسبوق في أحجام الديون الوطنية لجميع دول العالم، وارتفعت نسب الديون العامة أيضا لانخفاض النواتج المحلية الإجمالية. ومن المتوقع ارتفاع أحجام ديون الدول المتقدمة بنحو 16 في المائة من نواتجها المحلية الإجمالية في 2020. وستتجاوز أحجام الديون العامة في عدد منها نواتجها المحلية أو تكون قريبة من مستوياتها. أما الدول الصاعدة، فسترتفع أحجام ديونها بما يقارب 6 في المائة من نواتجها المحلية الإجمالية هذا العام، وسيتجاوز حجم ديون عديد منها العامة عتبة 70 في المائة من نواتجها المحلية. سيضعف الارتفاع الكبير في أحجام الديون العامة لدول العالم قدرات تحفيز النمو الاقتصادي وتوفير مخصصات شبكات الحماية الاجتماعية ومواجهة التحديات المستقبلية. إضافة إلى ذلك، سيحد ارتفاع الديون الحكومية من توافر الائتمان للمؤسسات الخاصة والأسر، ما قد يتسبب في رفع تكاليف الاستدانة ويولد معضلة ديون لبعض الدول.
يتطلب التعامل مع التحديات متوسطة الأمد المتولدة عن الجائحة مهارات وكفاءة عالية في اختيار وصنع السياسات، واستغلالا أجدى للموارد العامة. ويؤيد معظم الخبراء ضرورة تركيز الإنفاق الحكومي على دعم تطوير وتنمية الطاقة الخضراء، وزيادة الإنفاق الجماعي للدول على مشاريع البنية الأساسية. إضافة إلى ذلك ترتفع ضرورة تجنب إجراءات وسياسات كبح النمو التي قد يرى بعض صناع القرارات حتمية اتخاذها للتعامل مع ارتفاع الديون العامة. وبدلا من ذلك ينبغي - قدر الإمكان - توفير البيئة المناسبة والدعم لتحفيز نمو القطاعات الخاصة، وخصوصا المنشآت الصغيرة، وتجنب السياسات والممارسات المثبطة للأنشطة الاقتصادية قدر الإمكان.
إنشرها