Author

عصر الأرقام والأصفار في انتظارنا

|
أستاذ جامعي ـ السويد
في مثل هذه الأيام من العام الماضي أتانا خبر تفشي وباء كورونا في الصين، حيث أطلقت شرارة عنفه وهيجانه في مقاطعة هوبي، وأطبق فكيه على عاصمتها ووهان التي يقطنها نحو 12 مليون شخص. وفي هذه الأيام نقرأ بشارة توصل العالم إلى إنتاج أكثر من لقاح للوقاية من الفيروس، وصرنا نعد ليس الأشهر أو الأسابيع أو الأيام، بل الساعات التي تفصلنا عن تطعيمنا به حماية لنا من جائحته.
لا غرو أن الجائحة عاثت خرابا في العالم، حيث في غضون عام من عمرها قلبت أغلب موازين الحياة على أعقابها.
الاختلال الذي أحدثته في مضامير حياتنا كبير، والسؤال المطروح الآن هو إن كان في مقدور اللقاح منحنا ليس الحماية من الوباء فحسب، بل جعلنا نتصرف ونعيش ونمضي في طريقة حياتنا كأن الجائحة لم تكن. مهما كانت مواقفنا من مضامير ومرافق الحياة قبل الجائحة، فإن ما أحدثه الوباء من شرخ يجعلنا نتوق إلى الزمن قبل مقدمه. لكن يبقى السؤال، هل سيعيدنا اللقاح إلى تلك الأيام التي صار أغلبنا يفتقدها بشدة؟.
كنا نعاني كثيرا الأزمات قبل ضرب الجائحة لنا، وكان كثير من كتاب الرأي من أمثالي يكثفون نقدهم لمسارات الحياة العديدة وينزلون عليها مثل السياط. وكان النقد في مجمله قبل الجائحة يأخذ مسارين: المسار الأول يتناول عدم المساواة، خصوصا في حقل توزيع المداخيل والواردات، وكذلك في حقل التعامل الإنساني مع المختلف عنا. المسار الآخر يتناول الاضطهاد الذي يرافق عدم المساواة في الحقلين في المسار الأول.
الجائحة حدث قد لا يشبه أي حدث آخر وقع لنا منذ الحرب العالمية الثانية. هنا لا أتحدث عن المآسي التي رافقتها وسترافقها حتى يأذن الله بالخلاص من أدرانها. واحد من الأسباب المهمة للواقع الذي أحدثته وستحدثه الجائحة في حياتنا المعاصرة يتعلق بالخصوصية الخوارزمية للعالم الذي نعيشه، حيث تم خورزمة تقريبا كل شيء في حياتنا. والخوارزمية أرقام، أي معادلات حسابية تغذيها الأرقام، وفي رأيي نحن تلقينا أغلب معرفتنا ومعلوماتنا عن الجائحة من خلال الأرقام وخوارزمياتها. وهكذا أرى أن مطاف الجائحة سينتهي ببزوغ فجر جديد للتكنولوجيا الخوارزمية لن تبقي وجهة من أوجه الحياة إلا وستطرقها وبقوة.
وهذه الانتفاضة الخوارزمية التي ستعقب الجائحة، ستكون من التأثير بمكان يفوق تأثير وعواقب أي ثورة من الثورات العلمية والسياسية، والعسكرية، والفكرية، والدينية، والثقافية، التي شهدتها البشرية منذ نشأة الحضارة والمدنية حتى يومنا هذا.
نحن مقبلون على ثورة صناعية خوارزمية قد يصعب على أي كاتب خيال علمي، مهما علا شأنه أو مقامه، التنبؤ بمساراتها. قد يكون مقدم الثورات بالنسبة لكثير من الناس فأل خير. الثورات عموما تبشر بالمساواة ورفع الظلم عن المقهورين القابعين في قاع الهرم، بيد أن حال ما تستقر وتتسلم زمام الأمور يزداد الجالسون في قمة الهرم مكانة وجاها وثراء ويزداد حال المقهورين في القاع سوءا.
عاملتنا الجائحة بمساواة وهي تنزل مطرقتها على رؤوسنا، لكن البون بين قوة المطرقة وبطشها كان جليا وهي تنتقل من مكان إلى آخر ومنطقة إلى أخرى وفئة إلى أخرى.
أفلحت الجائحة في تخويفنا وبث الرعب في قلوبنا، لكنها أخفقت في ردم هوة عدم المساواة بيننا.
ومع مقدم اللقاح ستضطر الجائحة إلى الانزواء والانكفاء تاركة الساحة لعبث قوى بشرية خوارزمية عملاقة ستزيدنا هما كبيرا على همومنا، لأنها أساسا مبنية على التمييز وليس المساواة.
في عصر ما بعد الجائحة، الذي يبدو أن مقدمه صار قاب قوسين أو أدنى، سنكون وجها لوجه أمام ظاهرة التريليونية Tmrillionaris في نقلة نوعية يمتلك فيها شخص واحد أو شركة واحدة من القيمة السوقية أو المال أو التأثير أو الثروة ما قد لا تملكه قارة مثل قارة إفريقيا برمتها.
سيكون عصر ما بعد الجائحة عصر Trillionarism، أي: عصر الأشخاص والشركات الخوارزمية التي تتكدس الأموال لديها بالتريليونات وكل تريليون معناه واحد وأمامه 12 صفرا.
كم فغرت أفواهنا من الدهشة ونحن صغار عندما كان يطرق أسماعنا رقم مليون ذو الستة أصفار، ومن ثم المليار ذو التسعة أصفار، ونحن اليوم شهود وفي غضون عقود أربعة على التريليون ذي الـ 12 صفرا، وهناك من يتوقع ظهور أناس أو شركات تساوي ثروتها أرقاما أمامها 15 صفرا. لن نعود القهقرى إلى ما قبل الجائحة، وهو زمن الأصفار الستة أو التسعة، بل سنكون أمام أصفار أكثر عددا، وحياة أكثر تعقيدا وقلقا ستكون عدم المساواة فيها هي الطاغية، ومتى كانت الأرقام التي في حوزتنا متساوية؟.
إنشرها