Author

مصداقية استطلاعات الرأي في مهب الريح

|
أستاذ جامعي ـ السويد
احتفى كثير من الناس في الولايات المتحدة وخارجها بفوز جو بايدن المرشح الديمقراطي، نائب الرئيس السابق، بالانتخابات الأمريكية. ويبدو أن هناك ما يشبه المناحة في جانب آخر، وهنا ليس المقصود الرئيس الحالي وحزبه الجمهوري، اللذين لم يحالفهما الحظ.
الأنظار مصوبة تجاه استطلاعات الرأي والقائمين عليها من شركات ومراكز بحث وعلماء وأساتذة وباحثين، حيث وصل الأمر إلى درجة الدعوة في أكثر من وسيلة إعلامية رصينة في أمريكا ذاتها إلى الترحم على نشاطهم واستبياناتهم.
وقد تكون استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة نجحت في تكهن اسم الفائز، بيد أنها فشلت تقريبا في كل التفاصيل الأخرى، حتى الدقيقة منها بقدر تعلق الأمر بمآل الانتخابات الرئاسية لعام 2020.
وإن كان “المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين”، فإن مسألة اختزال الميول والمواقف السياسية وغيرها على أنها مجرد أرقام ومعادلات حسابية، لرأينا أن المستطلعين وشركاتهم جرى لدغهم للمرة الرابعة في قضايا وشؤون مصيرية في غضون أربعة أعوام.
المرة الأولى، عندما أخفقوا في التنبؤ بما ستكون عليه نتائج الاستفتاء حول بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي في حزيران عام 2016، حيث توقعوا أن أغلب الناس سترغب في البقاء وخاب فألهم.
في المرة الثانية، وبعد نحو خمسة أشهر على نكستهم في معرفة ما ستؤول إليه نتائج الاستفتاء في بريطانيا، أجمع أغلب مستطلعي الرأي وشركاتهم ومراكز أبحاثهم على فوز هيلاري كلينتون المرشح الديمقراطي بالانتخابات الرئاسية، ورفضوا منح الرئيس الحالي أي فرصة لاحتمالية جلوسه على الكرسي في المكتب البيضاوي في واشنطن.
وفي الثالثة، رأينا كيف أن نتائج الانتخابات البرلمانية البريطانية لعام 2017 أتت عكس توقعات أغلب استطلاعات الرأي أيضا.
وكان وقع الفأس ثقيلا في المرة الرابعة، حيث لم يشفع المستطلعون حتى نجاحهم النسبي في معرفة اسم الفائز، لأن أغلب التفاصيل الأخرى المتعلقة بالانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة أتت بما لم تكن تشتهيه سفنهم.
وقد لا يعلم البعض مقدار الأهمية التي تسبغها دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا ومعهما دول أوروبا الغربية على نتائج الاستطلاعات التي يعود تاريخها إلى الثلاثينيات من القرن المنصرم.
بعد 90 عاما ونيفا من الاعتماد على نتائج استطلاعات الرأي وأرقامها ونسبها المئوية، نرى أن المناهج والنظريات والتطبيقات المستخدمة فيها لم تعد نافعة، وأن مسألة إثارة أسئلة محددة وإرسالها إلى عينة من الناس ومن ثم تحليلها وأرقمتها واستخلاص نتائج منها حول قضايا في صلب الحياة والمستقبل لم تعد تشفي الغليل.
أقول هذا لأن بالنسبة للغرب، تعد استطلاعات الرأي ركنا أساسيا من طريقة الحياة وطريقة الحكم ومعرفة الصالح من الطالح في الحياة السياسية.
أن يرى الغرب نفسه فجأة أمام ظاهرة يبدو فيها أن الناس أخذت تبتعد رويدا عن واحد من المعايير الأساسية لمعرفة الذات وما يفكر فيه الناس وما يتكئ عليه أصحاب الشأن لتثبيت أركان الحكم والسياسات في شتى مناحي الحياة، ويصبح تدريجيا مثارا للتندر والريبة والشك ترقى إلى الخديعة لدى البعض، فلعمري هذا أمر ستكون له تبعات كبيرة.
وهذا ما حدا بمجلة “أتلانتيك” الأمريكية الشهيرة وصف ما حدث ويحدث لاستطلاعات الرأي بالفضيحة، وأن القدسية التي كان المجتمع بمؤسساته المختلفة يسبغها عليها قد تبخرت، لأن بعد فشل الاستطلاعات - والكلام للمجلة - لم يبق للأمريكيين أي وسيلة معتمدة أخرى لمعرفة واستيعاب ما يفكر به الناس، ما يهدد المقدرة على معرفة خياراتهم.
ما قصة الديمقراطيات الغربية؟ كيف حدث أن يصل الأمر بدولة عملاقة بكل ما للكلمة من معنى أن تجعل من الأرقام الوسيلة الوحيدة المتاحة لديها لمعرفة ما يفكر به شعبها وما يدور في خلدهم؟.
الأهمية القصوى وغير المتناهية التي تمنحها الولايات المتحدة ومعها الديمقراطيات الغربية الأخرى لاستطلاعات الرأي والأرقام، في ظني، مؤشر لما يخبئه المستقبل من مفاجآت غير متوقعة ستؤثر سلبا في مكانتها.
مشهد غريب حقا الذي رأيناه في الأعوام الأخيرة وكيف يعمد فيه السياسيون إلى تلخيص كل ما يرغب فيه الناس إلى نسب مئوية وأرقام، تجعل الفائز بالانتخابات يتباهى بها، والذي لم يحظ بأرقام عالية وخسر الانتخابات يتباهى بها بطريقته الخاصة أيضا. وفشل الاستطلاعات يأتي في وقت صار للولايات المتحدة وبريطانيا والدول الغربية الأخرى قصب السبق في الحواسيب الذكية والخوارزميات، التي صرنا نخشى أنها قد تسبق أدمغتنا البشرية في الذكاء والتكهن والتوقعات.
إنشرها