Author

مدى مصداقية مؤشرات الثراء واستطلاعات الرأي

|
أستاذ جامعي ـ السويد
هناك مظاهر كثيرة أو معايير مختلفة لقياس عدم المساواة وميول الناس، ويأتي التباين الاقتصادي ومستوى المعيشة وطريقة التعامل مع الأرقام والإحصاءات في مقدمتها. التركيز على الجانب المعيشي - دخل الفرد - ضمن نطاق دولة واحدة أو عند المقارنة بين الدول المختلفة، رغم أهميته، قد لا يمنحنا صورة نزيهة عن الواقع الاجتماعي. ولهذا يعمد الاقتصاديون والمفكرون والباحثون إلى تمحيص سياق التباين، بمعنى آخر ربط عدم المساواة في الجانب الاقتصادي بواقع المجتمع وتكوينه وشرائحه.
ومؤشر الثروة نستدل عليه في الأغلب من خلال الأرقام، أي: الإحصاءات. لكن الأرقام دون القرائن والتساوق والسياق الذي جرت فيه لن تعبر تعبيرا صادقا عن حال الناس وأوضاعهم الاجتماعية والمعيشية وكذلك عن ميولهم السياسية.
ويبدو أننا أصبحنا أكثر ولعا بالأرقام والنسب المئوية وغيرها من أي وقت مضى في تاريخنا البشري. ولم تعد هذه الحال حصرا على الناس العاديين، بل الولع بالأرقام والنسب والتحاليل والدراسات الكمية والمقدارية صار واحدا من المؤشرات المهمة لرصانة البحث العلمي في الدراسات الجامعية.
قد تكون الاستنتاجات المبنية على الكمية أو الأرقام ذات أهمية قصوى في العلوم الصرفة والمعارف مثل الحساب والجبر والهندسة والفيزياء وغيرها، إلا أن جعلها مؤشرا لميول الناس وواقعهم الاجتماعي، فهذا لعمري شأن من العسر استساغه.
ألم تشنف آذاننا وتقرع رؤوسنا الاستطلاعات الكمية التي أنفق عليها منظموها أموالا طائلة حول المآل الذي ستستقر عليها الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. من النادر أن يخرج استطلاع بأرقام لا تشير إلى أن الطريق إلى البيت الأبيض مفروش بالزهور للديمقراطيين هذه المرة، لكن الواقع أظهر عكس ذلك. هطلت علينا أرقام ونسب ومعدلات تشبه ما كانت عليه الحال قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، لكن عندما برهن الواقع كذب الأرقام التي أنزلتها علينا مراكز البحث والاستطلاع، شرع المنظمون تحميل دول أخرى مسؤولية عدم صدقية أرقامهم. لننتظر إن كانت ستتحمل المسؤولية هذه المرة أم أنها ستلقي باللائمة على الآخرين.
الأرقام والنسب لا معنى لها خارج سياقها، وأغلب الاستطلاعات تعكس شريحة محددة من الناس ومن الصعوبة بمكان تعميمها. وحال الأرقام والنسب التي تجترها لنا الاستطلاعات والاستبيانات تشبه نسبة دخل الفرد وقيمة الناتج القومي الإجمالي.
لنفرض بلدا تصل نسبة دخل الفرد فيه إلى 70 ألف دولار في العام، الرقم الكبير هذا يجعل اللعاب يسيل لضخامته، لكن حال تمحيص الواقع الاجتماعي والمعيشي نلاحظ أن نسبة قليلة جدا (نحو 10 في المائة) من الناس في هذا البلد تحصل على نسبة تقترب من هذا الرقم، بينما أغلب الناس من مجموع نحو ثلاثة ملايين فيه تعتاش على الكفاف. بصورة عامة، نحن أمام معادلة اقتصادية تعاكس المنطق الذي يقول: إن ثراء الأمم يردم الفجوة بين الذين يملكون والذين لا يملكون. أظن أنه في كثير من الأحيان يظهر الواقع الاجتماعي للدول والمجتمعات الثرية أن تراكم الثروة يؤدي إلى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
خذ الصين مثالا. لقد تضاعف الثراء في الصين ومعه دخل الفرد في غضون عشرة أعوام من نحو خمسة آلاف دولار إلى نحو عشرة آلاف دولار. صحيح أن تراكم الثروة في الصين انتشل مئات الملايين من الناس من براثن الفقر المدقع، إلا أن الفترة ذاتها شهدت زيادة في الفجوة الهوة أكثر من ذي قبل بين الأغنياء والفقراء. وإن أخذنا الولايات المتحدة، الدولة الأكثر ثراء في العالم، حيث تبلغ قيمة الإنتاج القومي الإجمالي فيها ما قد يلامس ثلث مثيله في العالم، لرأينا كيف أن الزيادة المطردة في الثروة تنتج مجتمعا غير عادل أو منصف من حيث توزيع الدخل.
ولو أجرينا مقارنات على مستوى دخل الفرد في الولايات المتحدة بعد الاستقطاعات الضريبية، نكون أمام مشهد يبرز لنا إلى أي مدى وصل التباين وعدم المساواة في توزيعه.
فمثلا، قيمة الدخل القومي الإجمالي الذي يتقاضاه الأمريكيون بعد الضريبة يزيد نحو 50 في المائة على مثيله في الدول الإسكندنافية. الفرق هنا يكمن في ضريبة الدخل في هذه الدول مقارنة بالولايات المتحدة، حيث في الأولى هناك ضريبة تصاعدية على الدخول المرتفعة وفي الثانية الضريبة أكثر مسامحة مع الدخول المرتفعة.
ورغم الثراء الذي تنعم فيه الولايات المتحدة، والأرقام المرتفعة للدخل الفردي وقيمة الإنتاج القومي الإجمالي، يكاد الفقر يتحول إلى ظاهرة متأصلة في الحياة الأمريكية، حيث يصل عدد الفقراء فيها إلى أكثر من 34 مليون شخص. إلا أننا نستدل من الشرح أعلاه، رغم بساطة المطروح فيه، أن علينا عدم قبول الأرقام والإحصاءات كما هي، قبل وضعها تحت مشرحة النقد التحليلي الذي يستخلص معناها فقط عند فهمها ضمن السياق الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي أتت فيه.
إنشرها