Author

الطيار الآلي داخل المنظمة

|
ولدت تقنية الطيار الآلي عام 1912، وفي ذلك الوقت كانت البداية مجرد أداة هيدروليكية تمكن قائد الطائرة من تثبيت المسار والارتفاع، سرعان ما تطورت مع تطور تقنيات الطيران حتى أصبحت اليوم برمجيات دقيقة تأخذ في الحسبان عديدا من العوامل الجوية والملاحية وتحسن جودة أداء الطيران أثناء الرحلة، لكنها لا تزال دائما بحاجة إلى عقل وتحكم الإنسان. تستخدم كلمة الطيار الآلي autopilot أحيانا بشكل مختلف عندما يقصد بها مجازا المضي في تكرار سلوك معين دون التفكير حوله وبطريقة لا إرادية، مثل من يقود سيارته إلى بيته دون أن يتذكر أو يفكر كم إشارة مرورية مفتوحة مر بها أو كم إشارة مزدحمة توقف عندها. وهناك استخدام مجازي آخر يستخدم داخل المنظمات ويراد به أتمتة العمل والإجراءات بطريقة لا تحتاج إلا إلى قليل من التدخل البشري.
النظر في تطور مفهوم القيادة الآلية من بدايات الطيار الآلي وتقنيات التحكم في المسار للمركبات الأخرى والسفن حتى السيارات ذاتية القيادة المثيرة للجدل يجعلنا نستشعر كثيرا من فرص وتحديات الأتمتة داخل أماكن العمل. لم يحالف النجاح كل تقنيات التحكم الآلية في ممارسات الإنسان اليومية، نجح بعضها نجاحا باهرا مثل استخدامه في الطائرات التي تخضع اليوم لقوانين صارمة، وبعضها ما زال يعاني تشريعيا وتجاريا مثل السيارات ذاتية القيادة.
ترتبط نجاحات أنظمة القيادة الآلية بالقيمة التي تحققها التقنية هنا، كلما ارتفعت القيمة العائدة من هذه التقنية وكانت محددة وواضحة، وكانت آلية العمل تخضع لعدد محدود من العناصر والتعقيدات، مع مناسبة التكلفة لكل ذلك، كتب لها النجاح. والعكس صحيح تماما، لو أخذنا أيا من هذه التقنيات الآلية وخرجنا بمعادلة تطبيق ضعيفة أو غير واضحة القيمة، في وجود عدد كبير من العناصر التي يصعب التحكم بها، مع تكلفة لا توازي المردود، سيكتب لها الفشل. والأمثلة لا تنتهي، ففي حين حقق الطيار الآلي والقبطان البحري الآلي نجاحا منقطع النظير في الطيران والإبحار التجاري، فهو محدود الاستخدام في الممارسات الترفيهية. قلما تستخدم القوارب الترفيهية على سبيل المثال أنظمة التحكم بالمسار وهي موجودة لمن يرغب لكن تكلفتها النسبية مرتفعة وفائدتها محدودة. القارب الترفيهي يقطع مسافات قصيرة نسبيا، لا يمكن تخطيطها بشكل مفصل ومتكرر، متعرجة المسار، وكثيرا ما يتنقل بين مسارات ساحلية ضيقة لم ترسم بدقة أو في أماكن مزدحمة لا يمكن التنبؤ بنوايا سالكيها. من الخطر استخدام نظام التحكم بالمسار الذي يوجه القارب وتشغيله في خليج بحري تتقاطع فيه القوارب الشراعية والدبابات البحرية بشكل عشوائي طوال النهار. وهكذا تماما العمل داخل المنظمة، أتمتة الإجراءات تتطلب تحديد القيمة وتبسيط المهام والقدرة على التنبؤ بسلوكيات الآخرين. تحتاج إلى التحكم بالمشهد وترويض الإجراءات كي تكون قابلة للتنبؤ، وهذا يعني السيطرة على مدخلات واضحة وصحيحة والانتهاء بمخرجات محددة ومكتملة.
عند الحديث عن السيارة ذاتية القيادة التي نسمع أخبارها ولا نراها، نجد مثالا آخر واضحا لتحدي دمج التقدم التقني بالواقع. قائمة التحديات التشريعية والتطبيقية التي تجعل انتشار هذه السيارات في الوقت الحالي ضربا من الخيال طويلة جدا. إشكالات متنوعة ترتبط بإمكانية تطبيق هذه التقنية وتحقيق القيمة المرجوة دون آثار سلبية لا نعرف قدرتنا على السيطرة عليها. أولها، تحديد القيمة المرجوة من الاستغناء عن سائق السيارة، فسائق السيارة على سبيل المثال، لن يحسن جودة القيادة إذا انشغل عنها وترك البرمجيات الذكية تقوم بهذا الدور عنه، مقارنة بالطيار الذي يركز على مهام أخرى أثناء استقرار الطائرة في مسارها المرسوم. ومع كثرة العناصر التي تواجهها السيارة أثناء الزحام أو في الثواني الأخيرة قبل حدوث الاصطدام، لا يمكن حتى الآن ترتيب مخ السيارة الإلكتروني وخوارزمياته لتحديد الحكم الأمثل بطريقة يتفق عليها المبتكرون والمشرعون والقضاة. السيارة ذاتية القيادة لن تعرف رغبة عابري الطريق من طريقة وقوفهم. من المضحك كذلك أن السيارة ذاتية القيادة عرضة للمخاطر السيبرانية، آخر ما ينتظره رجل المرور هو إيقاف سيارة يختطفها هاكر يوجد في بلد آخر وهكذا، مشروع أتمتة قيادة السيارات يظهر كأنه أعقد مما يحتمله التطبيق الواقعي المرن والسلس.
عندما نتحدث عن الأتمتة والإجراءات داخل المنظمة فالمعادلة شبيهة بأنظمة التحكم في القيادة ورحلتها بين الطائرة والسفينة والسيارة. تبسيط معادلة العناصر الموجودة في مسرح العمل شرط واضح وأساس. لن تنجح استخدامات التقنية المتقدمة في عالم معقد ومضطرب إلا بعد التبسيط والتفكيك. وبعد التبسيط نرى أن تعريف القيمة كما ذكرنا في المقال الماضي مطلب لا يمكن تجاهله، فما نريد أن نحصل عليه يجب أن يحدد قبل أن نفكر فيما ستحققه لنا التقنية وإبداعاتها. وبكل تأكيد تظل مقارنات التكلفة بالعائد أمرا غير قابل للنقاش، خصوصا في منظمة ذات أهداف محددة بموارد محدودة. تجاهل تكاليف الأتمتة أو التحول التقني مقارنة بالعوائد المرجوة يعني الدخول في نفق الخسائر الذي سيهدم المحاولة عاجلا أو آجلا، وإن حسنت النية.
إنشرها