Author

اللحاق خلف الحد الأدنى

|
هناك كثير من الأمثلة التي نرى فيها حالة اللحاق خلف الحد الأدنى من المتطلبات الإلزامية. وهذه المتطلبات تواجهها المنظمات بشكل يومي، سواء كانت شركة تعمل في قطاع خضع للتنظيم أخيرا أو مؤسسة مختصة تعمل في مجال بيئي أو صحي أو أخرى تبدأ في الاستعداد لعملية مراجعة أو فحص في الأسبوع الأخير قبل الموعد المنتظر. عندما نقول محاولة "اللحاق بالحد الأدنى" نحن نقصد الإعداد والتجهيز والتقيد بأقل قدر من المتطلبات التي تحقق الالتزام المطلوب حسب القواعد التي ترغب هذه الجهة في تحقيق الالتزام بها.
هذا الأسلوب في تطبيق المطلوب فيه إيحاء بأن الأمر ضروري لكنه غير مفيد، أو حمل ثقيل لا بد من حمله، أو أمر طارئ مفاجئ ينبغي التعامل معه. وهذا الإيحاء موجود رغم أن معظم هذه المتطلبات مرتبط بتحقيق قيمة مهمة تمت دراستها من مختصين، أمر يحمي العملاء أو الموظفين، أو يرفع جودة العمل، أو ينظم سوقا ضعيفة ومختلة، وما إلى ذلك. هناك بالطبع جدل كبير حول التنظيمات وآثارها الإيجابية والسلبية، فالاقتصاديون والسياسيون والصناعيون وداعمو الابتكار لديهم آراء كثيرة حول جدوى زيادة المتطلبات الإلزامية، لكن الحديث هنا عن أحد مظاهر التطبيق والممارسة، بغض النظر عن هذا الجدل.
قد يكون المتطلب الإلزامي تشريعا جديدا أو متطلبا دوليا أو معيارا مختصا أو ترتيبا داخليا طارئا وضروريا. في النادر من الحالات يحدث الأمر بالشكل المثالي، إذ تبدأ محاولة الالتزام في العادة متأخرة، مشوشة، وتتأثر كثيرا بالمقاومة الداخلية وبضعف المعرفة حول ما يجب الالتزام به، وعادة ما تكون النتائج على الورق أكثر مما هي على الواقع. حتى إن البعض يرسم ويخطط بشكل يستهدف تحقيق المتطلب الإلزامي فقط، الذي لا يمكن إثبات وجوده إلا بما يظهر في الورق والمستندات، فيصمم العمل ليكون فعليا بلا قيمة، وكما نعرف أن التخطيط والتنظيم ليسا أفضل المهارات التي يجيدها الأفراد، فكثير منا يسبح في الفوضوية وعادات "العمل بجد" في اللحظة الأخيرة، فإن الأمر كذلك ينطبق بشكل كبير على المنظمات بأشكالها. فيكون العمل حارقا للجهود، مدمرا للتوقعات، مخادعا بمظهره، ليصبح في النهاية شكلا بلا جوهر وجسدا بلا روح.
لو حاولنا تفنيد الحالات التي تحصل فيها محاولات اللحاق بالحد الأدنى لوجدناها كثيرة ومختلفة، لكن هناك ما يستحق النظر وتسليط الضوء. مثل الاستجابة للمتطلبات التنظيمية التي تستهدف حفظ الحقوق ورفع مستوى الممارسات والجودة، كاللوائح العمالية والاشتراطات الصحية ومتطلبات الحوكمة. تعرف الإدارة الواعية أن تنفيذ هذه المتطلبات في الوقت المناسب بالطريقة المناسبة سيحسن إجمالا من جودة عملها ويجعلها متقدمة على منافسيها ويمكنها من صنع القيمة المرجوة من العمل المنظم الذي تديره. لهذا، يرتهن النجاح في التعامل مع هذه الحالات بالقدرة على صنع الثقافة الملائمة داخل المنظمة والعمل بشكل متوازن على تغيير العقلية التي ترى هذه المتطلبات، فالأمر يجب ألا يكون حبرا على ورق فقط. الفارق كبير جدا بين موظف ينظر للمتطلب أنه حمل يؤدي عدم تنفيذه للمخالفة، وموظف يبحث عن أفضل طريقة للالتزام تتجاوز في استهدافها المتطلب وتكون متقدمة عليه.
التعامل مع الحوكمة على سبيل مثال مرتبط بروح الحوكمة وأهدافها، التي تضبط العلاقات وتحدد الصلاحيات وترفع محددات المسؤولية. ستجد كثيرا من الكتابات والأفكار، لكن عند الممارسة، ستسمع عبارات مثل: "دعونا نركز الآن على المتطلب النظامي" أو "هل نحن ملزمون بالقيام بذلك؟" أرى أن البحث عن نص القانون أو النظام في أي أمر مفيد بطبيعته وحيوي للمنظمة ينبغي أن يكون بعد عقد العزم على تنفيذه بأفضل الطرق. أي إن التطبيق بأفضل الممارسات وتحقيق هدفه ينبغي أن يتسع ويتجاوز المتطلب النظامي، حينها يكون الالتزام بالقانون تحصيلا لأمر حاصل. العكس مهلكة إدارية وخداع لا فائدة منه، وأراه إهمالا قد يكون جسيما يستوجب التوبيخ والعقاب.
من جانب آخر، قد تعمل المنظمة في بيئة متأخرة تنظيميا وتجد نفسها في فراغ كبير لعدد من الأعوام، ثم يأتي التنظيم الذي قد لا يكون مرتبطا بشكل مباشر بطريقة إدارة الأعمال داخل المنظمة، أو تضطر إلى الالتزام بعرف دولي جديد أو ممارسة يفرضها المنافسون. عندها تبدأ الإدارة في العمل على إعادة التنظيم لتحقيق الالتزام بحده الأدنى حتى استشعار الفائدة، وهنا قد تختلف استراتيجية التنفيذ. التوازن بين ما يستحق التطبيق بحده الأدنى وما يجب أن نسعى لتنفيذه بحده الأعلى، قائم على الفائدة المرجوة منه، وبيان الفائدة قائم على وعي الإدارة وفهم أولويات العمل وما يحقق القيمة. وهنا مربط الفرس والفارق الأول بين من يعيش في الفوضى وتظهر هشاشة أعماله بعد عامين أو ثلاثة، ومن يجيد تحقيق النتائج المستدامة حتى إن غاب عن المكان من بعد حين.
إنشرها