دول صناعية قوية .. حكومات هشة ضعيفة

إن كان لوباء كورونا فائدة، فإن ذلك قد لا يتجاوز الدروس التي نستقيها حول ضعفنا كبشر في مواجهته. والهشاشة والضعف والخور والخوف والروع والوجل الذي انتابنا وهو يكتسح بلدا بعد آخر ومجتمعا بعد آخر أظهر بجلاء أن الأقوياء أكثر عجزا ووهنا وإخفاقا في مواجهته من الضعفاء والفقراء والمهمشين.
لا شك أن الوباء ألحق هزيمة في أكثر الدول قوة ومنعة من حيث المال والعسكر والصناعة والتجارة. فها هي بريطانيا تترنح في مواجهته وتدفع ثمنا باهظا لعقود من الالتزام بالمبدأ الأيديولوجي القائل: إن تدخل الحكومة والقطاع العام يشكل عثرة في طريق الازدهار الاقتصادي والصحة العامة.
وقد لا يختلف المشهد كثيرا عن بريطانيا في أغلب الدول الغربية التي تتباهى بصناعاتها وجيوشها ومالها الذي لا عد له ولا حد. فلو تتبعنا مسيرة الجائحة في بريطانيا، مثلا، لرأينا تطابقا وتشابها في كثير من أوجهها لما حدث ويحدث في دول غربية أخرى.
في البداية، واجهت الحكومة البريطانية قدوم الجائحة إلى أراضيها بكثير من الاعتداد والإعجاب بالنفس إلى درجة أن بوريس جونسون رئيس وزرائها كان يصافح الناس ويلتقيهم علانية دون اتخاذ أي احتياطات إلى أن أوقعه الفيروس القاتل في شباكه.
وأظهرت الأسابيع لا بل الأشهر الأولى نقصا حادا في الأجهزة والمعدات الطبية والأسرة في المستشفيات، ولم تتخل الحكومة عن كبريائها إلا بعد ظهور بوادر أن الوباء في طريقه إلى حصد مئات الآلاف من الأرواح إن لم يتم غلق البلد لإيقاف زحفه. ولا شك أن بريطانيا عريقة في نظامها الديمقراطي وتداول السلطة والثقة بالمؤسسات، بيد أن ما شهدناه هو أن نظام الخدمة العامة عماد المجتمع المدني فيها، أصابه تقريبا الشلل وصار زمام الأمور في يد رجل واحد وهو رئيس الوزراء وكأننا في دولة من العالم الثالث غير الديمقراطي حسب وصفهم. وتتحدث الصحافة البريطانية ذاتها عن خلل وظيفي وتقريبا على كل المستويات رغم أن الخدمة المدنية في بريطانيا كانت ولا تزال يضرب فيها المثل لكفاءتها.
فغاب التعاون والتناسق بين الخطط الملحة لتلبية متطلبات الصحة العامة والأهداف الاقتصادية، وظهر أن هناك بونا شاسعا بين المصادر والموارد المتاحة وكيفية تلبية الحاجات الآنية لأفواج من العاطلين من جهة والقيام بخدمة المصابين بداء كورونا من جهة أخرى. وظهر أن الحكومة لم تفعل شيئا تقريبا لمواجهة الموجة الثانية للوباء مع قدوم فصل الشتاء وكيفية التوفيق بين المصادر المتاحة والطوارئ التي سترافق أي هجمة جديدة للفيروس.
حتى خدمة الصحة الوطنية، المؤسسة التي يتباهى بها البريطانيون حكومة وشعبا، انحنت أمام الجائحة وعليها اليوم تقديم أجوبة حول مسائل خطيرة كتهميشها لمرضى يعانون أمراضا خطيرة مثل السرطان على حساب المصابين بفيروس كورونا. وفي السويد التي قدمت نموذجا فريدا في مواجهة الوباء، تثار أسئلة كثيرة حول دور الحكومة الذي يصفه البعض هنا بالانهزامي؛ لأنها تركت مقادير شعب بأكمله بيد عالم أوبئة مغمور كان ولا يزال له القول الفصل في شأن التعامل مع الفيروس. وظهر أن الحكومة ذاتها قد تخلت عن واجباتها في خدمة شريحة مهمة وكبيرة من الشعب السويدي وهم المسنون الذين يشكلون أكثر من 20 في المائة من السكان.
غادرت الحكومة السويدية تقديم الخدمات العامة لهذه الشريحة وبيوتهم وسلمتها إلى القطاع الخاص، ومنذ حينه حدث تراجع خطير في تقديم الخدمات لهم وعلى رأسها الخدمات الصحية.
وعند ظهور الوباء في السويد، صارت دور المسنين في السويد مرتعا للفيروس المخيف، يعيث فيها قتلا، حيث حصد أكثر من ثلاثة آلاف نفس.
أما في الولايات المتحدة، الأغنى والأقوى في العالم، فالأرقام والأحداث تؤشر إلى ضعف وهشاشة المؤسسات والحكومة في مواجهة الوباء، حتى صار البلد يضرب به المثل لوهن نظامه الصحي في تلبيته حاجات الطبقات المسحوقة التي كانت الأكثر ضررا.
وبدأنا نقرأ كيف أن طبقة الفقراء في أمريكا تعد بعشرات الملايين - نحو 38 مليون حسب الإحصاءات الرسمية - وكيف أن هؤلاء صار من العسر عليهم بمكان الحصول على الغذاء في الفترة التي فرضت أغلب الولايات غلقا قسريا على النشاط الاقتصادي.
ووصل عدد الذين قدموا طلبات الحصول على المعونة الخاصة بالعاطلين عن العمل في أمريكا إلى أكثر من 30 مليون شخص، احتارت الدولة العملاقة هذه في كيفية المساعدة في معيشتهم.
لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية ترى الدول الصناعية الكبرى أنها كبرى بمالها وعسكرها واقتصادها ومواردها، بيد أنها ضعيفة وهشة بحكوماتها وإداراتها.
لا غرو أن تقع هذه الدول في رأس السلم في عدد ونسبة ضحايا الجائحة، حسب البيانات المتوافرة على موقع جامعة جونز هوبكنز الأمريكية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي