Author

ثقافة المؤسسة بين مكامن الثقة وضوابط الشك

|
ذكرنا في المقال السابق تعريفا لثقافة المؤسسة يقول إنها كيفية أداء المؤسسة لعملها، وبينا أن هذا الأداء يرتبط بسلوك العاملين فيها في تنفيذهم المهمات الموكلة إليهم، في إطار إسهام هذه المهمات في مجمل عمل المؤسسة. وبالطبع يعتمد سلوك العاملين في هذا التنفيذ على الأنظمة العامة التي تضعها المؤسسة لعمل منسوبيها، وكذلك على الإجراءات الخاصة التي تعتمدها لكل مهمة من مهمات نشاطاتها. وتختلف الأنظمة والإجراءات بين مؤسسة وأخرى، وقد تختلف أيضا بين مهمات وأخرى داخل المؤسسة ذاتها، وذلك من حيث مستوى الثقة أو مدى الشك في جودة أداء العاملين وتنفيذ متطلبات العمل، سواء في التزامهم المهني بأداء المطلوب من جهة، أو من حيث قدراتهم المهنية على تنفيذ هذا الأداء بالجودة المنشودة من جهة أخرى، أو ربما في الاثنتين في آن معا.
هناك أمثلة مختلفة على الضوابط الناتجة عن الشك والهادفة إلى الوصول إلى الأداء المنشود. ففي مسألة الالتزام المهني على سبيل المثال، تشمل مثل هذه الضوابط تسجيل مواعيد حضور وانصراف العاملين لضمان وجودهم على رأس العمل في فترات الدوام الرسمي كما تتضمن إحالة اتخاذ بعض القرارات إلى لجان أو مجالس للتأكيد على نزاهة هذه القرارات وبعدها عن أي هوى شخصي قد يتسبب به قرار فردي. أما في مسألة القدرات المهنية، فقد تشمل الضوابط إحالة نتائج الأعمال المختلفة إلى المراجعة من قبل آخرين للتأكد من صحتها أو إعادة النظر فيها وربما تتضمن أيضا الاستعانة بجهات من خارج المؤسسة لمراجعتها، أو حتى القيام بها بدلا عن منسوبي المؤسسة.
تعزز الضوابط إن كانت مدروسة ومحقة، فاعلية أداء المؤسسة Effectiveness، أي إنها تسهم في تقديم نتائج الأعمال كما يجب أن تكون. لكنها من ناحية أخرى تؤدي إلى الحد من كفاءة Efficiency الأداء ورشاقته Agility أيضا. فكفاءة الأداء تتطلب خفض النفقات، لكن النفقات تزداد بازدياد الضوابط. كما أن رشاقة الأداء التي تركز على عامل الزمن ساعية إلى الاستجابة للمتغيرات والتكيف معها دون تأخير، تتراجع بدورها أيضا بازدياد الضوابط. وعلى ذلك لا بد للضوابط أن تستند إلى مسببات كافية لتحقيق الفاعلية المطلوبة، دون أن يكون في ذلك إعاقة لكل من الكفاءة والرشاقة، لأن مثل هذه الإعاقة تقود إلى الحد من القدرة على المنافسة التي تشهد تزايدا مطردا حول العالم، وفي جميع مجالات الحياة.
ويبرز هنا تساؤل مهم هو: كيف نجعل الضوابط عند حدها الأدنى من أجل تحقيق الفاعلية المنشودة، وكي نتجنب بأقصى قدر ممكن إعاقة كفاءة العمل ورشاقته، والتمتع بالتالي بالقدرة على المنافسة. أمام هذا التساؤل يجب طرح مكامن الثقة التي يمكن الاستفادة منها في الحد من الضوابط. ولا بد لمكامن الثقة هذه من أخذ عاملي الالتزام المهني والقدرة المهنية في الحسبان. وسنناقش في التالي أمر كل من هذين العاملين.
إذا بدأنا بالالتزام المهني نجد أن هناك قولا بهذا الشأن أورده مايكل واتكنز Michael Watkins في مقاله المنشور في مجلة "هارفارد" لمراجعة الأعمال HBR عام 2013. يبين هذا القول أن جزءا كبيرا من ثقافة المؤسسة التي تتضمن شؤون الالتزام بالعمل، يمكن توجيهه والتحكم به عبر التعويضات المادية والحوافز المعنوية المناسبة. ولعل الفكرة الأهم في مثل هذه التعويضات والحوافز هي كسب انتماء العاملين للمؤسسة وولائهم لها. فإذا شعر كل من العاملين أنه مسؤول عن المؤسسة كمسؤولية صاحب العمل، عندئذ يصبح الالتزام المهني بالعمل التزاما حقيقيا موثوقا، نابعا من مسؤولية ذاتية، ويمكن الاعتماد عليه في الحد من الضوابط، وبالتالي تحسين الأداء.
وإذا انتقلنا إلى القدرة المهنية نجد أن الأصل في توزيع المهمات على العاملين في المؤسسات هو الأهلية التي يتمتعون بها، التي تمكنهم من تنفيذ هذه المهمات على أفضل وجه ممكن. لكن التقدم المتسارع الذي شهده ويشهده العالم، منذ بداية الثورة الصناعية في القرن الـ 18، أبرز الحاجة إلى متابعة هذا التقدم والشراكة المعرفية بشأنه من أجل الاستجابة للمتغيرات، وأداء الأعمال المتجددة بالجودة المنشودة. وإذا نظرنا، في هذا المجال، إلى التوصيات الـ 14 التي وضعها وليم إدواردز ديمنج William Edwards Deming الملقب بأبي إدارة الجودة، بشأن الجودة في المؤسسات، لوجدنا أن ستا من هذه التوصيات تهتم بتطوير القدرة المهنية للعاملين، وتعزيز ثقتهم بالمؤسسة، وتفعيل إسهامهم المشترك في التطوير والارتقاء بجودة العمل.
هناك في توصيات ديمنج توصية تقضي بالتدريب على رأس العمل، وأخرى تدعو العاملين إلى التطوير الذاتي وتشجيع المؤسسة لهم على ذلك عبر توفير برامج خاصة لهذه الغاية. ثم هناك توصية تهتم بمنح الجميع فرصا لتطوير الجودة في المؤسسة، وتوصية أخرى تكملها، وتركز على إزالة الحواجز بين العاملين كي يكونوا أقرب إلى التعاون والشراكة في العمل. وهناك بعد ذلك توصية تقضي بعدم التفرقة بين العاملين على كل المستويات ومهمات العمل، وتوصية ثانية تؤكد بناء الثقة بين العاملين من جهة وإدارة المؤسسة من جهة أخرى لجمع قلوب الجميع على العمل بأداء متميز يحقق الجودة المنشودة.
لا شك أن ثقافة العمل التي تنطلق من الثقة المطلقة بالالتزام المهني بالعمل، والثقة المطلقة بالقدرة المهنية على التنفيذ دون ضوابط قسرية، ثقافة مرغوبة ومطلوبة. فهذه الثقافة تحقق فاعلية الأداء وكفاءته، بل ورشاقته أيضا، وهي بالتالي تقدم الجودة المناسبة، عبر تخلصها من قيود الضوابط المختلفة. لكن الاعتماد على هذه الثقة يتطلب بناء الجودة في الإنسان. ويتضمن ذلك جانبين رئيسين: جانب بناء أخلاقيات الالتزام المهني بمتطلبات العمل والتشجيع على الاستجابة الذاتية لمتطلباته، وجانب التأهيل اللازم والمستمر الذي يضمن القدرة المهنية على إتقانه. ولعل من المفيد أخيرا إطلاق توصية للمؤسسات تقول: إذا كان من الصعب الانطلاق من ثقافة الثقة المطلقة، فلعل وضع ضوابط الأداء يتم على أساس وجود دليل كاف يبرر الحاجة إلى كل ضابط.
إنشرها