تنظيم الخدمات بين الواقع والمأمول «1من 2»

دأب كثير من الدول على إنشاء هيئة تنظيم الخدمات Services Regulatory Authority للتأكد من قيام مقدم الخدمة Service Provider في تنفيذ جميع الأنظمة والقوانين التي تصدر عن المشرع ومن ثم إصدار الرخص واللوائح التنفيذية والأدلة والأكواد بما يكفل حقوق المستهلكين ومقدمي الخدمة الآخرين. إضافة إلى مراجعة التعريفة والرؤى والخطط الاستراتيجية وحماية المصلحة العامة، فإن الغرض من إنشاء هيئات التنظيم هو التحقق من أمن الإمدادات، وضمان الجدوى التجارية للصناعة، وتحديد تعريفة عادلة بين المستهلكين والمستثمرين، وتشجيع المنافسة العادلة، وحساب الدعم الحكومي، ومراقبة أداء الصناعة، وارتقاء التنافسية، ورفع كفاءة وجودة المنظومة، وجذب الاستثمارات إلى الصناعة، وتوفير الخدمات وإيصالها بأسعار معقولة للمستهلكين، خاصة لذوي الدخل المحدود أو المناطق النائية. وتشمل الخدمات التنظيمية Regulated Services على سبيل المثال لا الحصر، الكهرباء والماء والصرف الصحي والمخلفات والاتصالات والبريد والبيئة والغاز والغذاء والدواء والنقل والطيران المدني والموانئ والخدمات المصرفية والمصرفية وغيرها. قد يقوم بعض الهيئات بتنظيم أكثر من خدمة تحت سقف واحد بيد أنها قد تجد صعوبة في تقديم التنظيم المطلوب أو قد تتداخل مهام خدمة على أخرى، ما يفشل عملها، خصوصا في معالجة الشكاوى من المستهلكين، حيث إن طبيعة كل صناعة تختلف عن الأخرى. إن الهدف هو تمكين هيئة التنظيم من أداء جميع الوظائف المنوطة بها بموجب القانون، لكن يجب أن تكون قرارات هيئة التنظيم متسقة ومتماثلة في النهج ومعالجة الحالات المتشابهة، ويجب أن تكون قرارات هيئة التنظيم قابلة للتنفيذ. لا يكفي أن تكون القرارات صحيحة من الناحية النظرية والمنطقية فحسب، لكن يجب أيضا أن تكون قابلة للتنفيذ من الناحية العملية، كما أشار البروفيسور راو في كتابه "السلطات التنظيمية". وقال في سياق آخر: إن هيئات التنظيم تحتاج إلى مراجعة مدى تنفيذ القرارات التي تصدرها بصفة دورية لكن في الوقت ذاته يجب ألا تصبح مديرا تفصيليا Micro-Manager يتدخل في تفاصيل شؤون المرخص لهم.
لو تأملنا مليا في مصطلح التنظيم Regulation لوجدنا أنه يشير إلى الآليات التشريعية التي تقوم الدولة بموجبها بفرض المتطلبات على المؤسسات والشركات التجارية والمستهلكين. وتشمل الأوامر الملكية وقرارات مجلس الوزراء والأنظمة والقوانين والتوجيهات الإدارية واللوائح التنفيذية الصادرة عن جميع الجهات الحكومية، إضافة إلى الضوابط القانونية الصادرة عن الهيئات غير الحكومية أو الجمعيات المهنية التي تحظى بتفويض رسمي من قبل الدولة في مجالات تنظيمية معينة. إن هذه القوانين تمثل سياسة الدولة ويقوم على تنفيذها سلطة تنفيذية، والشخص أو الأشخاص الذين ينفذون هذه القوانين هو المنظم Regulator أو المنظمون الذين ينظمون عملية التنفيذ. وبالنظر إلى بعض الممارسات العالمية نجد أن هيئات التنظيم تصنف على أنها شبه قضائية لأنها تتمتع بصلاحيات تنظيمية وتشريعية وتنفيذية وقضائية. يؤدي المنظم وظيفة إدارية عند التحقق من الأسعار أو التأكد من جودة الخدمة. وعندما تعقد جلسات لجنة فض المنازعات، يعمل المنظم كقاض يحكم في ممارسة المرخص لهم وشكاوى المستهلكين بعد أن يقوم بدراسة الأدلة واتخاذ القرارات حيالها. ويمكن للمنظم رسم القواعد واللوائح التي يريد أن يعمل بها ويمكن أن يقرر مقاضاة الشركة وجمع الأدلة ضدها، ويكون الحكم القضائي بناء على الأدلة، ما يشير إلى أن المنظم يعمل كسلطة تشريعية. ويتميز المنظم عن الكيانات التقليدية الأخرى أن لديه صلاحيات شبه قضائية من حيث القدرة على سماع الالتماس والاستئناف وفحص الأدلة واتخاذ القرار. وتجدر الإشارة إلى أن بالإمكان الطعن في قرارات هيئات التنظيم وتقديم الدفوعات أمام المحاكم نظرا لكونها شبه قضائية.
إن على المنظم أن يترجم التشريعات إلى قواعد وتنظيمات وإجراءات ونظم مراقبة أداء كي تمكن من تحقيق أهداف القوانين والأنظمة كما ذكر الدكتور جوناثان ليسر في كتابه "مبادئ تنظيم الطاقة"، ويمكن أن تكون التشريعات أو الأنظمة توجهات عامة أو مفصلة، لكن مهما تكن الطريقة التي تصاغ بها تلك التشريعات، فإن على المنظم ممارسة صلاحيات تقديرية عند تفسير بنود النظام. لو صيغ التشريع بصفة عمومية، يمكن للمنظم عندئذ اتخاذ عديد من القرارات بما يخدم المصلحة العامة ويحقق الهدف المنشود بمزيد من المرونة في التنظيم. لكن لو صيغ بطريقة تفصيلية، فقد تصبح العملية مقيدة للغاية في ظل غياب المرونة المطلوبة، ولذا يجب أن توازن صياغة التشريعات بين المرونة في التطبيق وتحقيق الهدف من التشريع. وعليه يسعى المنظم في إعداد الإطار التنظيمي للصناعة نحو تحقيق المبادئ التالية:
1. الوضوح والمواءمة والبساطة عبر تحديد المهام والمسؤوليات التنظيمية من خلال أدوات قانونية متماسكة ومنسقة.
2. الشفافية عبر رصد وتقرير المسؤوليات وتحديد علاقات واضحة بين الجهات المعنية في الصناعة.
3. تحسين الأداء بضمان تحقيق الإطار لهدفه الرئيس وتعزيز التطبيق الوقائي.
4. المرونة وقابلية التكيف بوضع إطار تنظيمي يسهل إجراء تغييرات محتملة في الصناعة ويدعم أي تقدم مرحلي للأنظمة مع مرور الوقت.
إن المبرر الرئيس لإنشاء هيئات تنظيمية مستقلة هو تمكينها من النظر في القضايا المعقدة أو المثيرة للجدل دون تمييز بين الأطراف ذات العلاقة، وكذلك الحاجة إلى خبرات متمرسة لصياغة اللوائح واتخاذ القرارات أو مهام قضائية قد لا تكون متوافرة في الجهات الحكومية، التي قد تكون أمام تأثيرات خارجية أو تضارب مصالح في المهام. قد يكون من الصعب إيجاد أنواع تلك الكوادر من أصحاب الخبرات المختلفة المطلوبة في الجهات القضائية والمحاكم، ولذلك نشأت الحاجة إلى هيئات مختصة مع صلاحيات قضائية للقيام بهذه الوظائف... يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي