Author

منقذ السويد أم معذبها؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
ترنو عيون العالم صوب السويد، والأبصار مشخصة هذه المرة أيضا نحو أندش تيكنيل عالم الدولة لشؤون الأوبئة، وهناك أكثر من سبب للاهتمام البارز بالتجربة السويدية في مقاومة الجائحة التي أدارها، ويبدو بجدارة، رجلا مغمورا، بدأ نجمه بالصعود خارقا جدار المحلية ومخترقا أسوار العالمية. أظن أن صحيفتنا الغراء كانت ولا تزال في الصدارة بقدر تعلق الأمر بتغطية التجربة الفريدة للسويد في مواجهة وباء كورونا. وها هي الأنظار مرة أخرى ترحل صوب السويد، مركزة على تيكنيل الذي صار شبه أيقونة، أو معبود الجماهير في بلده، حيث يساوي كثيرون بينه وبين المكانة والشهرة على مستوى العالم للفريق الغنائي السويدي المعروف بـ "آبا" Abba.
ولا تمل الصحافة السويدية من الكتابة عنه. ولم تمل؟ إذا كانت القمصان قصيرة الأكمام التي تحمل شعارات مثل" "تيكنيل أفضل عالم أوبئة في العالم،" أو أحيانا صورته الشخصية، الأكثر مبيعا في البلد لمحبيه وكارهيه (له معارضون رغم قلتهم لكنهم يتسمون بالشدة)، صار تيكنيل ظاهرة، تستحق الدرس والتمحيص والقراءة، خصوصا بعد أن أطلت الجائحة برأسها ثانية في كثير من الدول ومنها الغربية وأفزعتها، والسويد كأنها في منأى عنها.
ولا يكاد يمر أسبوع إلا ونقرأ في الصحافة السويدية، نقلا عن الصحافة الغربية، مقالا يشيد بعالم غير منتخب يقود حكومة منتخبة ديمقراطيا في مواجهة أكثر شراسة من حرب شعواء ضد عدو متخف قتل حتى الآن 5900 مواطن سويدي. هل هذا بطل أم عالم بلا أحاسيس؟، يقول المناوئون له في السويد، يتقدمهم كبار المسؤولين في حزب "ديمقراطيي السويد" اليميني المتطرف.
"هذا العالم أنقذ السويد من فيروس كورونا دون اللجوء إلى الغلق وصار الآن بطلا قوميا، كتبت صحيفة "أكسبرسن" السويدية الشهرية نقلا عن مقال يكيل المديح لتيكنيل في الصحافة البريطانية. ربما لم تحصل شخصية سويدية على المكانة الرفيعة التي يحتلها تيكنيل محليا ودوليا في العقود الأخيرة، رغم أن البلد مشهود له بمكانته على مستوى العالم من خلال سياسييه ودبلوماسييه وعلمائه في شتى مضامير الحياة.
ولم يكن الأمر هكذا في الربيع الماضي، حيث كانت الجائحة تحصد أرواح المسنين بالمئات كل يومين أو ثلاثة وكان تيكنيل صاحب الوجه الشحوب الجامد والأعصاب الباردة مثل الصقيع يتهم باقتراف مجزرة وتحويل السويد إلى بلد منبوذ في العالم، بيد أن الرياح سارت في النهاية حسب ما تشتهيه سفن تيكنيل، حتى الآن في أقل تقدير.
وعلى منوال البساطة وعدم التكلف، وهما سمة الأكاديمية السويدية، يظهر تيكنيل البالغ من العمر 64 عاما في الإعلام المحلي والعالمي بهندامه غير الرسمي مرتديا قميصا مترهلا وبنطالا عاديا.
ويثير هندامه دهشة محاوريه وملتقيه من كبار المسؤولين والعلماء في العالم الذين يتقاطرون إلى السويد للتعرف من كثب على تجربتها الفريدة في مواجهة الجائحة.
واليوم يتردد اسمه في السويد ربما أكثر من رئيس وزرائها ويكن له أغلب السويديين مكانة واحتراما كبيرين، وقد ظهرت للتو بوادر لتخليد اسمه كبطل قومي، حيث ألف مطرب راب سويدي أغنية تشيد به وسياساته.
وعندما اجتاحت أوروبا أول موجة من الجائحة في آذار (مارس) الماضي، كانت السويد ومعها بريطانيا تتبعان سياسة تكاد تكون موحدة في مواجهة الوباء، حيث كان الدولتان ترفضان الغلق القسري، لكن ما أثار الرعب في قلوب البريطانيين، كانت دراسة قدمها البروفيسور نيل فيرجسون من إمبريال كوليدج للعلوم والتكنولوجيا والطب في لندن ينذر الحكومة بأن الجائحة قد تقتل نصف مليون بريطاني في حالة عدم اتخاذ إجراءات غلق قسرية.
في حينه، نقلت الصحافة السويدية عن البروفيسور فيرجسون تحذيراته للحكومة البريطانية، مذكرة الحكومة في ستوكهولم أن الجائحة في السويد، حسب دراسته، قد تقتل 85 ألف شخص، آخذين في الحسبان الفرق بين السكان.
إلا أن الأرقام المفزعة هذه لم تحرك في تيكنيل ساكنا، ورفض غلق البلد أو الحدود أو فرض ارتداء الأقنعة الواقية أو القفازات أو غيره من الإجراءات القسرية الأخرى التي طالت أوروبا.
وما يستشف من اللقاءات الصحافية مع السويديين في معترك الحياة، وما نلاحظه شخصيا ونحن نتابع أحوال البلد كي نقص قصصه لقراء صحيفتنا الغراء، أن السواد الأعظم من الناس تعرف لتيكنيل فضله في أن تصبح السويد مرة أخرى رائدة وعلى ما يبدو ظافرة في سعيها إلى احتواء الجائحة، بينما العالم حولها يترنح في وجل وفزع وخشية أمام ما يبدو موجة ثانية من الوباء ونحن على أبواب الشتاء.
ونظرة سريعة على الاقتصاد في الأشهر التسعة الماضية منذ اكتشاف أول بوادر للوباء في الغرب، تظهر أن السويد في أحسن حال مقارنة بالدول الغربية الأخرى، حيث لم تتوقف عجلة المصانع والمعامل والخدمات والأسواق عن الدوران رغم انحسار التصدير - عماد الاقتصاد السويدي - بنسبة 9 في المائة. لا غرو أن يبرز بطل جديد، ليس في صفوف الشعب السويدي، بل على مستوى العالم الذي يرى في إجراءات الغلق القسرية هزيمة وفشلا أمام الجائحة، اسمه أندش تيكنيل.
إنشرها