Author

بين استراتيجية المؤسسة وثقافتها خصام أم وئام؟

|
تسعى المؤسسات في كل زمان ومكان، وأيا كان مجال عملها أو حجمها، إلى تطوير إمكاناتها وتحسين أدائها، ومواكبة المتغيرات من حولها، والاستجابة للمتطلبات لتحقق بذلك مكانة مرموقة في مجال عملها، وتكون قادرة على المنافسة والتميز، وتقوم المؤسسات في سبيل ذلك بوضع استراتيجيات للمستقبل معززة بخطط ومشاريع، يطلب العمل على تنفيذها لجعل الطموحات المنشودة حقائق على أرض الواقع. ينجح كثير من المؤسسات في ذلك، ويتعثر كثير منها أيضا. وهناك رأي مهم في هذا المجال أطلقه بيتر دركر Peter Drucker، الذي يلقب بأبي نظرية الإدارة Father of Management Theory، يستحق أن نتوقف عنده لأن فيه تشخيصا لأسباب التعثر، ربما خلص إليه عبر خبرة طويلة شملت دراسة مسيرة مؤسسات كثيرة، ولعلنا عبر هذا التوقف نقدم في الختام بعض الملاحظات المفيدة.
يقول دركر: "تقوم الثقافة بأكل الاستراتيجية مع فطور الصباح". يبرز هذا القول أهمية ثقافة المؤسسة في تمكنها من تنفيذ خططها وتحقيق طموحات استراتيجيتها. فقد تستطيع المؤسسة وضع استراتيجية متميزة وتعزيزها بخطط ومشاريع واعدة، لكنها لن تستطيع تنفيذ هذه الخطط وتحقيق أهداف الاستراتيجية المنشودة ما لم تتمتع بالثقافة المناسبة للعمل المطلوب، أي: تكون العلاقة بين ثقافة المؤسسة واستراتيجيتها علاقة وئام. فإذا كانت هذه الثقافة غير مناسبة، فهذا يعني أن التعثر سيأتي مبكرا في الصباح، أي: عند البدء في العمل على تنفيذ خطط الاستراتيجية، حيث يكون بين الثقافة والاستراتيجية في هذه الحالة علاقة خصام وتنافر.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما ثقافة المؤسسة التي يمكن أن تسبب النجاح، أو التي يمكن أيضا أن تؤدي إلى التعثر؟ وتجدر الإشارة هنا إلى أن الجملة السابقة استخدمت "تعثر" ولم تستخدم "الفشل" في مقابلتها المضادة للنجاح. والسبب وراء ذلك هو أن على المؤسسات أن تدرك أن عدم النجاح يعني التعثر، ولا يعني بالضرورة الفشل، لأن هناك دائما فسحة للمراجعة وكشف أسباب عدم النجاح، والسعي إلى تجنبها في تنفيذ محاولة أخرى يمكن أن تؤدي إلى النجاح المطلوب، فالنجاح قد يتعثر، ولا يتحقق دائما من المحاولة الأولى، لذا على كل مؤسسة تتطلع إلى النجاح أن تستفيد من خبرة التعثر إن حدثت، وتسعى إلى إصلاح ذاتها، والمحاولة من جديد. ونعود بعد الملاحظة السابقة إلى مسألة ثقافة المؤسسة التي تحمل عوامل نجاح للمؤسسات في عملها على تحقيق طموحاتها المستقبلية، وسنستعين في ذلك بالمقال المنشور في مجلة "هارفارد" لمراجعة الأعمال HBR عام 2013، وقد أعد مايكل واتكنز Michael Watkins هذا المقال تحت عنوان: ما هي ثقافة المؤسسة؟ ولماذا علينا أن نهتم؟ وأعطى فيها مجموعة من التعريفات لثقافة المؤسسة، كما يراها عدد من خبراء الإدارة. وقد اخترنا من هذه المجموعة ستة تعريفات يؤمل أن تعطي نظرة متكاملة لهذه الثقافة.
يقول التعريف الأول، وهو التعريف الأبسط: إن ثقافة المؤسسة هي كيفية أداء المؤسسة لعملها. ويضيف التعريف الثاني إلى ذلك قوله: إن ثقافة المؤسسة هي الحالة الحضارية التي يتم أداء الأعمال تحت مظلتها. والمقصود بالحالة الحضارية هنا: حصيلة القيم والعادات والتقاليد التي يبنى على أساسها عمل المؤسسة والروابط بين العاملين فيها. ويقدم التعريف الثالث إضافة أخرى إلى ما سبق، حيث يقول: تتأثر ثقافة المؤسسة بثقافة المجتمع المحيط بها، أي: تتأثر بعادات وتقاليد هذا المجتمع. ولعل من المناسب القول هنا، إن ثقافة المؤسسة محاطة بثقافة أخرى هي ثقافة المجتمع، وهي بلا شك تتأثر بها، لكنها يمكن أيضا أن تؤثر فيها من خلال منسوبي المؤسسة، خصوصا عندما يستطيع هؤلاء المنسوبون إعطاء أمثلة حسنة في العمل الدؤوب الذي يحقق النجاح.
ويقدم التعريف الرابع نظرة أكثر تحديدا لثقافة المؤسسة، ويركز في ذلك على ما تتطلع هذه الثقافة إليه. فهو يرى أن هذه الثقافة تعمل على تعزيز التفكير الذي تراه سليما وتدعيم السلوك المرتبط به الذي يحمل قيم هذا التفكير، كما أنها تعاقب أي تفكير أو سلوك آخر يعارض ذلك. ويأتي التعريف الخامس، بعد ذلك، ليقدم فكرة أخرى تقول، إن جزءا كبيرا من ثقافة المؤسسة يمكن توجيهه والتحكم به عبر التعويضات والحوافز المناسبة. وهناك بالطبع جانب مادي لهذا الأمر، كما أن له جانبا معنويا. ولعل الجانب المعنوي يكمن في بيئة الثقة في المؤسسة، وذلك بين أصحاب العمل من جهة، والعاملين من جهة أخرى. فإن شعر العاملون أن المؤسسة تعاملهم كأصحاب عمل، فإن سلوكهم في العمل سيعزز إنتاجيته، ويدعم تطويره نحو الأفضل. ونصل إلى التعريف السادس، حيث يقول: تمثل ثقافة المؤسسة نظام المناعة فيها، فإن صلح هذا النظام فإنه يحمي المؤسسة من الزلات، وإن لم يصلح عانت وتعثرت مسيرتها.
بناء على ما سبق، هناك ثلاث ملاحظات يمكن استخلاصها. تقول الملاحظة الأولى، إن ثقافة المؤسسة تتمثل في كيفية أداء العمل، وتتأثر هذه الكيفية بالحالة الحضارية للمؤسسة، وثقافة المجتمع من حولها، وبكل من التفكير والسلوك المرتبطين بذلك. وتكمل الملاحظة الثانية سابقتها لترى أن مخرج ثقافة المؤسسة هو السلوك في أداء العمل الذي يمثل جوهر النجاح عند مواءمته مع استراتيجية حسنة التوجهات. أما الملاحظة الثالثة فتنظر إلى ثقافة المؤسسة على أنها قابلة للتطوير عبر حوافز مادية أو معنوية أو الاثنتين معا، وهذا التطوير يعزز مناعة المؤسسة في مواجهة تحديات التعثر.
يؤمل من كل مؤسسة طموحة تتطلع إلى المستقبل، وتضع أهدافا استراتيجية وخططا تنفيذية للوصول إلى هذه الأهداف أن تأخذ في الحسبان مسألة تطوير ثقافتها وسلوك منسوبيها في العمل، بما يتواءم مع متطلبات الاستراتيجية والخطط. فإذا كانت استراتيجية المؤسسة تحدد طموحاتها المنشودة، فإن السلوك في العمل الذي تقدمه ثقافة المؤسسة هو المسؤول عن التنفيذ. والأمل هو علاقة وئام وتوافق بين استراتيجية المؤسسة التي تمثل طموحاتها من جهة، وثقافة المؤسسة التي توجه سلوكها من جهة أخرى.
إنشرها