Author

تطورات أسعار الغذاء العالمية

|
شهدت أسعار الغذاء العالمية ارتفاعات وتقلبات سعرية كبيرة في الفترة الممتدة بين بداية الألفية الحالية حتى 2014، حيث ارتفع مؤشر الأغذية العالمية السنوي الذي تصدره منظمة الأغذية الزراعية الدولية (الفاو) من 53.1 في 2000 حتى وصل إلى 131.9 في 2011. بعد ذلك تراجع المؤشر لكنه ظل فوق مستوى المائة حتى 2014. استقر المؤشر في مستوى التسعينيات في الأعوام التالية حتى الوقت الحالي. أثارت تداعيات انتشار جائحة كورونا المستجد المخاوف بشأن إمدادات وأسعار الغذاء العالمية، وتردي الأمن الغذائي لبعض البشر.
تتأثر أسعار الغذاء العالمية بعوامل العرض والطلب مثلها مثل باقي السلع والخدمات، أما زيادة أسعار الغذاء العالمية في بداية الألفية فلم تكن مدفوعة بتراجع الإنتاج العالمي من السلع الغذائية، لكنها جاءت نتيجة عوامل أخرى. كان تحسن الظروف المعيشية لأعداد كبيرة من سكان العالم، خصوصا في آسيا، من تلك العوامل، حيث رفع الطلب على اللحوم التي يتطلب إنتاجها مزيدا من الحبوب. ولم يكن هذا هو السبب الوحيد، حيث تأثرت أسواق الغذاء العالمية بارتفاع أسعار الطاقة التي رفعت أسعار بعض المدخلات، كما حفزت استخدام كميات ضخمة إضافية من الأغذية الأساسية، كالحبوب والسكر في إنتاج الوقود. إضافة إلى ذلك، لعبت الأسواق المالية دورا في تقلبات أسعار الغذاء، حيث قادت المضاربات في أسواق السلع الغذائية إلى زيادة حدة تقلبات الأسعار. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد ارتفعت مستويات تخزين الغذاء في عدد من الدول، كما قادت الصدمات النقدية إلى الضغط على السيولة للمنتجين وأسعار العملات والنمو الاقتصادي.
أدى الإغلاق العظيم الذي تسببت فيه الجائحة إلى تأثر سلاسل الإنتاج سلبا، ما رفع مخاطر انخفاض إمدادات المدخلات الزراعية كالأسمدة والبذور، أو التعطل الجزئي للعمالة وشبكات التوزيع والتسويق. من ناحية أخرى، تأثرت اقتصادات الدول بصدمات قوية خفضت القدرات الشرائية لكثير من السكان، كما مرت الأسواق المالية بتقلبات قوية وأثرت في أسعار العملات. لم يقتصر الأمر على ذلك، فقد كانت هناك مخاطر حقيقية من أن يقود تفاقم الأوضاع الاقتصادية إلى فرض الدول قيودا على صادرات الغذاء. وأدت قيود النقل والسفر إلى التأثير في أسواق المواد الغذائية سريعة التلف، كالخضراوات والفواكه، وارتفعت فعلا أسعار هذه السلع عند بداية الإغلاق في أماكن كثيرة.
من حسن حظ العالم أن الإغلاق العظيم الذي واجهه العالم مر بسلام على إمدادات وأسعار الغذاء في معظم العالم حتى الوقت الحالي. يعود هذا أولا لفضل الله - سبحانه وتعالى - ثم بفضل استمرار وكفاءة إنتاج وإمدادات وشبكات توزيع وتسويق الغذاء بشكل عام. ومن المتوقع هذا العام أن يشهد إنتاج كثير من المنتجات الغذائية الأساسية مستويات قياسية. ويستشرف أن يرتفع إنتاج العالم من الحبوب هذه السنة بنسبة 2.2 في المائة إلى 2765 مليون طن، ومن بين الحبوب سيظل إنتاج العالم من القمح شبه مستقر وبحدود 760 مليون طن، بينما سيرتفع إنتاج الأرز بنحو 2 في المائة إلى ما يقارب 509 ملايين طن. إضافة إلى ذلك، أسهمت السياسات الاقتصادية الكلية المالية والنقدية في خفض مخاطر نقص الأغذية لدى معظم دول العالم، حيث وفرت هذه السياسات السيولة النقدية، كما دعمت بشكل مباشر وغير مباشر المنتجين ودخول سكان العالم، ما حافظ على قدراتهم الشرائية في الحصول على الغذاء، كما حاولت - قدر الإمكان - الإبقاء على فعالية شبكات توزيع وتسويق الأغذية وإنتاجها.
ارتفع مؤشر أسعار الغذاء العالمي الشهري لـ "الفاو" خلال الأشهر الأخيرة من العام الماضي، وواصل ارتفاعه في كانون الثاني (يناير) من العام الحالي إلى 102.5. في الأشهر التالية تراجعت أسعار الغذاء العالمية حتى بلغت قيمة المؤشر 91 في أيار (مايو)، ثم عاودت أسعار الغذاء العالمية الزيادة حتى وصل مؤشر الفاو إلى 96.1 في آب (أغسطس) الماضي بزيادة بلغت 2.0 في المائة عن الشهر السابق، و2.1 في المائة عن نظيره من العام الماضي. تركزت زيادة أسعار المواد الغذائية خلال الشهر في أسعار الزيوت والسكر، بينما ارتفعت أسعار الحبوب بعض الشيء واستقرت أسعار اللحوم ومنتجات الألبان.
تولي الدول والمجتمعات أهمية بالغة لإمدادات وأسعار الغذاء لأهمتيها القصوى للحياة الإنسانية ولتأثيرها القوي في رفاهية الشعوب ومستويات الفقر. ويشكل الإنفاق على الأغذية جزءا كبيرا من ميزانية الفقراء وأصحاب الدخول المحدودة، لهذا يؤثر ارتفاع أسعارها بقوة في مستويات المعيشة ويرفع أعداد الفقراء ويعمق العوز. إضافة إلى ذلك تفاقم الزيادة القوية في أسعار الأغذية الضغوط على الشرائح السكانية منخفضة الدخل، ما قد يؤثر سلبا في الاستقرار السياسي والأمني. وخفف الاستقرار النسبي لأسعار المواد الغذائية الأساسية في معظم العالم خلال جائحة كورونا من الآثار السلبية لها وجنب العالم كثيرا من المتاعب. في المقابل، قادت الآثار الاقتصادية للجائحة في الدول التي تعاني تردي الأوضاع الاقتصادية أو الأمنية قبل الأزمة، إلى تدهور مداخيل نسب كبيرة من السكان، ومزيد من تدهور الأمن الغذائي فيها. وتقدر "الفاو" أن 44 دولة حول العالم تواجه مصاعب في توفير الاحتياجات الغذائية لسكانها وتدهورا في أمنها الغذائي. وتشكل دول إفريقية معظم هذه الدول، إضافة إلى الدول والمناطق العربية والإسلامية التي تعاني حالة عدم الاستقرار.
إنشرها