Author

سؤال المستقبل

|
تعطي الدراسة عن بعد أنموذجا مصغرا لما سيكون عليه حال البشر كما يبشر به أرباب التقنية وملاكها، وبالطبع المعجبون بها، أو فلنقل مدمنوها، لأننا جميعا معجبون بها بدرجات مختلفة.
بخيال صغير، وربما قصصي، سنرى الطفل/ة في المستقبل الذي يصورونه، يدرس عن بعد لوجود الإمكانية الافتراضية - دون أعطال أو انقطاع - ثم يختبر عن بعد، وينجح وترسل إليه شهادته موثقة ومعتمدة، وصولا إلى المرحلة التي يستطيع، أو تستطيعها إمكانات عائلته، ثم يتقدم إلى وظيفة هي أيضا عن بعد، لأن الذكاء الاصطناعي سيطر على العالم في عام 2052 - مثلا - ويبدأ العمل، ويتقاضى أجره، ويشتري احتياجاته عن بعد، ويصبح في خضم سلسلة من "العن بعديات"، يستثنى منها الأكل وحاجتان أو ثلاث بيولوجية وغريزية لا يمكن - إلى الآن على الأقل - تصور قضائها عن بعد.
لو تأملت قليلا في التجربة الصغيرة الحالية للدراسة عن بعد، لوجدت ملامح تغير طفيف في إحساس الأطفال بالبعدين المكاني والزماني. تغير لا يكاد يذكر أو يبين، لكنني أتوقع أنه مع نهاية الفصل الأول، أو العام الدراسي إذا استمر الأمر إلى الفصل الثاني، سيكون ملاحظا أكثر.
يحب الناس في الأشياء الجديدة المبهرة النظر إلى ميزاتها. الميزات التي تصنعها اليوم آلة إعلامية إعلانية رقمية مهولة من قبل الشركات التي تملك أكثر المنصات، والتقنيات التي تبشر بإمكانات "العن بعد" في كل شيء، وترتفع قيمة أسهمها، ويتسع مجال تحكمها مع كل خطوة رقمية جديدة للإنسان.
في هذه التجربة ستلحظون تغيرا في تعاطي الأطفال مع الأبعاد الزمانية والمكانية، وعلى صعيد أسهل ستلحظون تغيرات جسدية أبسطها الزيادة في الوزن، التي ستنتج من قلة الحركة التي كانت توفرها - إلى حد ما - رحلة التعلم عن قرب يوميا.
من الجيد، بل أعده من المهم، تطوير أساليب الحياة ودخول العوالم الرقمية كسمة للتطور البشري، فنحن لا يمكننا أن نطالب الفلاح بأن يحرث بيده في ظل وجود آلة صغيرة وقليلة التكلفة للقيام بذلك، لكن الفلاح يظل يشغل هذه الآلة بيده، ويجوس بها خلال تضاريس أرضه التي يعرفها ويعرف أين يحرث فيها.
العوالم الافتراضية تمارس على الكائن البشري الذي لم يكتمل نموه الجسدي والذهني.
هل يكتمل النمو الذهني لأي إنسان تقويضا للأفعال والتفاعلات التي يعرفها فطرة أو اكتسابا، وماذا تبني بدلا منها؟ هذا سؤال من أسئلة المستقبل تتشكل إجابته منذ الآن.
إنشرها