Author

هل جردتنا الجائحة من إنسانيتنا؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
لا أعلم من الأصغر حجما: فيروس كورونا المتناهي في الصغر، أم نحن البشر ضحاياه، المشبعين بالغلو والكبرياء. في النهاية سيسيطر الإنسان على الوباء المعروف بكوفيد - 19 بعد التوصل إلى علاج يحمي أبداننا منه.
أغلب الدول الغنية لها الآن مشاريع وأبحاث في طريقها لاكتشاف مصل أو لقاح يقينا شر هذا المرض المعدي المستبد. وقد لا تمضي فترة طويلة إلا ونحن نتقاطر صوب المؤسسات الصحية لحقننا بجرعة دواء لمساعدة أجسامنا على مقاومة الفيروس.
سيكون ذلك يوما بهيجا وسعيدا حقا وستظهر مرة أخرى إمكاناتنا في قهر ما تخبئه الطبيعة لنا من مصائد ومكائد متمثلة في فيروس مستجد أجبر قاطنيها من البشر على إعلان حالة طوارئ حول العالم مضى عليها حتى الآن نحو ثمانية أشهر. لكن إن كان في مقدور العلماء والباحثين التوصل إلى علاج لدحر الوباء الباثولوجي سنبقى ومعنا العلماء وحكومات الدنيا نصارع الأوبئة الاجتماعية التي هي من صنع أيدينا ولن يفيد معها أي مصل طبي أو دواء صيدلاني. سيرتد فيروس كورونا إلى جحوره، هذا ما يعدنا به العلماء، وما لنا إلا تصديقهم والعمل بوصاياهم، بيد أن الآفات الاجتماعية التي كانت متوافرة قبل هجمة الفيروس واستفحلت في الأشهر الأخيرة يبدو أن ما من دواء لدرء أخطارها.
كتبت هذه المقدمة بعد أن ردد أكثر من زعيم في الغرب الذي يملك المال والعدة والعلم ومن ثم احتكار المصل في النهاية، أنهم يعملون حسب توصية العلماء في كل ما يتعلق بالجائحة.
حسنا يفعلون، لكن لماذا التقيد بنصائح العلماء في مضمار، وتجنب نصائحهم لا بل ازدراؤها والعمل عكس ما ينادون به في مضامير أخرى؟ لم يكشف الفيروس كم هي ضعيفة أجسامنا أمام ضرباته، بل أماط اللثام عن عدم مساواة وفقر وعدم عدالة في توزيع الثروة والخدمات الأساسية ومنها الصحية.
وكشف لنا كيف يتبارى الأغنياء من الدول في الحصول على اللقاح واحتكاره، وكيف أن بعضهم دفع الأموال الطائلة للشركات للحصول على أول دفعات إنتاج له. وصار جليا كيف أن الفيروس يستغل الأمراض الاجتماعية التي نعانيها، وصار يفتك بالطبقات الأكثر فقرا والمجموعات البشرية المهمشة وكيف أخذ يستثمر صراعاتنا المبنية على اختلاف العنصر واللون وغيرها.
وصرنا نقرأ دراسات أعدها العلماء كيف أن الفيروس يصيب ويقتل من المهمشين حتى في الدول الصناعية المتطورة أكثر بكثير من المرفهين. في أمريكا مثلا ظهر أن نسبة الضحايا بين ملوني البشرة أعلى بكثير من نسبة الضحايا بين أصحاب البشرة البيضاء.
حتى في السويد، الدولة التي تتباهى بالمساواة، كشف العلماء أن الفيروس يرى طريقه بسهولة ويسر إلى أجسام اللاجئين والأحياء الفقيرة، بينما يلاقي صعوبة في اقتحام معاقل المواطنين من السويديين.
بعض المجتمعات انهارت مع أنظمتها الصحية والأخرى ظهر فيها تباين في الحصول على التطبيب والعلاج الذي كان متوافرا أو أكثر نجاعة للأغنياء منه للفقراء.
إجراءات كثيرة اتخذتها الدول لاحتواء الجائحة، وعلى رأسها الاستماع إلى المسؤولين والعمل بموجب المعرفة العلمية الصحيحة التي يأتينا بها العلماء ضمن لوائح صارت أشبه بطقوس مثل غسل الأيدي والتباعد والحجر الصحي وارتداء الأقنعة وغيرها.
بيد أن أيا من الإجراءات هذه وعلى جميع المستويات لم تضع في الحسبان الحجم الحقيقي للأمراض الاجتماعية التي نعانيها وكيف أنها استفحلت في عهد الجائحة. مع ذلك ليس لدينا أي خطط لمعالجة الأمراض الاجتماعية كالتي تتبعها الحكومات والمؤسسات في الغرب للحصول على اللقاح وكيفية توزيعه وتطعيمه. وليست لدينا مشاريع أو استراتيجيات طويلة الأمد لمعالجة ما نعانيه من تفرقة وعنصرية وكره وصراع طبقي وفوارق مخيفة في توزيع الأرزاق والمداخيل والموارد الطبيعية، ليس ضمن نطاق العالم فحسب بل حتى ضمن المجتمعات والدول.
هناك أمل كبير في الحصول على لقاح أو دواء ناجع يخلصنا من الوباء المستشري، لكن لا نرى حتى ضوءا خافتا في نهاية نفقنا المظلم الذي تترعرع فيه وتستفحل وتتكاثر أمراضنا الاجتماعية.
أثبتت مسيرة الجائحة أن العلماء هم أصحاب سطوة وسلطة حيث تخشاهم أقوى الحكومات وترتعد فرائص أقوى الزعماء أمام إنذاراتهم وتنبؤاتهم ونصائحهم.
العلم كان سراجا ونورا لنا في مواجهتنا للجائحة، لكن العلم ليس بمقدوره قيادة الحكومات والمؤسسات والمجتمعات لتطوير خطط واستراتيجيات لإيجاد مجتمعات تسودها المساواة والعدل والرأفة والإنسانية السمحاء في التنعم وتوزيع واستغلال واستثمار ما يمنه الله علينا من الكنوز والثروات على هذه الأرض.
علينا تبني خطط عملية تترشح منها قيمنا الإنسانية التي تجمعنا كبشر لإقامة مجتمعات نعيد صياغتها انطلاقا من الدروس التي استقيناها ونحن نولي الأدبار أمام فيروس كورونا.
كلنا تقريبا يتطلع إلى عالم لا يشبه ما كنا عليه قبل كورونا ولا ما كنا عليه والفيروس يكشر عن أنيابه لغرسها فينا. نريد عالما مختلفا لا مكان فيه للاغتراب والنفور من الآخر ولا حيز فيه للاستبعاد والإقصاء والحرمان والاستئثار بالنعم التي من الله علينا على حساب الواحد للآخر. عالم مثل هذا ليس طوباويا أو مثاليا، إنه عالم سهل التحقيق إن أردنا. البشر الذين يقهرون فيروسا قاتلا مثل كورونا في إمكانهم إحقاق العدل والمساواة، لنر.
إنشرها