Author

تفعيل الإبداع عبر إدراك مرن وعقلية نامية

|

أستاذ هندسة الحاسب في كلية علوم الحاسب والمعلومات بجامعة الملك سعود

عندما نتلقى معلومات بالقراءة أو الاستماع، وربما المشاهدة أيضا، فإن هذا التلقي يتطلب تفكيرا لإدراك محتوى هذه المعلومات واستيعاب مضامينها واستقبالها كمعرفة مفهومة. وإذا أردنا أن نكون أكثر طموحا في التعامل مع هذه المعرفة علينا تعميق التفكير فيها للانتقال من استيعابها إلى نقدها، سواء كان هذا النقد إيجابيا أو سلبيا، على أن يكون هذا النقد مستندا إلى أدلة، ربما ترتبط بحقائق أو محاكمة منطقية أو الاثنين معا. وقد يتطلب ذلك اطلاعا أوسع عبر مصادر أخرى على جوانب المعرفة المعطاة. وبعد مرحلتي الاستيعاب والنقد، تأتي احتمالات الإبداع وإضافة معرفة جديدة إلى المعرفة المعطاة، تتمثل في أفكار واعدة غير مسبوقة يأتي بها تفكير منطلق، مدعم ربما بخيال مفعم بالحياة يجوب حول الموضوع كشهاب مضيء كاشف لهذه الأفكار.
تعد معايير كثيرة ترتبط بالكشف عن المواهب Giftedness، أن الإنسان الذي يتمتع بقدرة كامنة عالية المستوى على التميز إنسانا موهوبا قادرا على الإبداع. ومن هذه المعايير تلك التي ذكرناها في المقال السابق، والمعتمدة من قبل الرابطة الأمريكية الوطنية لصغار السن الموهوبين NAGC، حيث ترى هذه الرابطة أن هناك خمسة مجالات رئيسة للموهبة هي: المجال الفكري، ومجال التجديد والإبداع، والمجال الفني، ومجال القيادة، والمجال الأكاديمي. وتعرف هذه الرابطة الإبداع على أنه الإجراء الذي يؤدي إلى إيجاد أفكار فريدة تتمتع بالجدة والريادة.
على أساس هذا التعريف تضع الرابطة قواعد للكشف عن طلاب المدارس الذين يتمتعون بقدرة كامنة عالية المستوى على القيام بتنفيذ إجراء الإبداع وتقديم أفكار غير مسبوقة. والغاية هي رعاية هذه المواهب، والعمل على تفعيلها، والاستثمار فيها، من أجل الاستفادة من عطائها. فاكتشافها في الإنسان في مراحل العمر الأولى، وتنميتها بعد ذلك يؤدي إلى نبوغه Talent فيها، نبوغ يمكن استغلاله فترة طويلة من الزمن بعد ذلك.
تحتاج تنمية موهبة القدرة على الإبداع وتفعيلها إلى الاهتمام بتعزيز صفات إنسانية أخرى، ومن أهم هذه الصفات: صفة الإدراك المرن Cognitive Flexibility، وتدعى أيضا التفكير المرن Thinking Flexibility، وكذلك صفة العقلية النامية Growth Mindset. وسنطرح، فيما يلي المقصود بكل من هاتين الصفتين ودورهما في تفعيل الابتكار.
هناك ثلاثة اتجاهات رئيسة تطرح للتعريف بالإدراك المرن. يقول أحد هذه الاتجاهات: إنه قدرة الإنسان على نقل انتباهه وتركيزه في التفكير من موضوع إلى آخر بسهولة ويسر. وقد يكون ذلك طبيعيا يتمتع به الإنسان عن دون قصد، أو مكتسبا بالإرادة الذاتية والخبرة الطويلة. وفي ذلك تعزيز لفكر منطلق يستطيع التفاعل بكفاءة مع متطلبات الحياة المتغيرة ليفعل بذلك إجراء الإبداع المثير للاهتمام. ويقول اتجاه آخر: إنه القدرة على تقديم أفكار متنوعة، وإيجاد روابط فيما بينها، حيث يؤدي ذلك إلى تكوين رؤية متكاملة متعددة المجالات لقضايا الحياة، تساعد على تعزيز القدرة على الإبداع.
أما الاتجاه الثالث للإدراك المرن فيرى أنه يمثل القدرة الذهنية على رؤية موضوع معين من مناظير مختلفة. فإذا كنا نريد تقييم إنسان بعينه، على سبيل المثال سيكون لهذا التقييم نتائج مختلفة تبعا لمنظار الصفات التي نراه من خلالها. فإذا جمعنا كل التقييمات المحتملة باتت لدينا صورة متكاملة لهذا الإنسان تسهل إيجاد وسائل إبداعية للتعامل معه بنجاح عند الحاجة.
وننتقل إلى صفة العقلية النامية. إذا بدأنا بكلمة عقلية Mindset فلعلنا نجد فيها معنى يتمثل في طريقة الإنسان في التفكير وتكوين الرأي، أي طريقته في استخدام العقل. أما وصف العقلية بالنامية Growth أو الثابتة Fixed فقد أتى من خلال بحوث كارول دويك Carol Dweck الأستاذة في جامعة ستانفورد Stanford University. فقد قامت بطرح هذين الوصفين وإيضاح مضمونهما عبر مقارنة صاحب العقلية النامية بصاحب العقلية الثابتة من خلال مسألتين مهمتين في قضية التفكير والوصول إلى اتخاذ القرار المناسب على أساس هذا التفكير. وترتبط هاتان المسألتان بمواجهة التحديات التي يمكن أن تبرز أمام الإنسان من جهة، وتنفيذ المهمات التي تطرح أمامه من جهة أخرى.
في مسألة مواجهة التحديات، يقدم صاحب العقلية النامية على المواجهة ويسخر إمكاناته لتحدياتها عادا ذلك وسيلة للتجديد وتقديم معطيات ناجحة غير مسبوقة. لكن صاحب العقلية الثابتة يسعى إلى تجنب أي تحد، كي لا يضع نفسه أمام احتمالية الفشل ليجهض بذلك أي احتمال للتجديد والنجاح أمام التحدي المطروح. وفي مسألة المهمات التي يطلب تنفيذها، يتخذ صاحب العقلية النامية موقفا إيجابيا في هذا التنفيذ، ويصر على إتمامه بالشكل المأمول، ليقدم بذلك إنجازا مفيدا هناك من ينتظر الاستفادة منه. أما صاحب العقلية الثابتة، فيقوم بإيجاد الأعذار التي تبعده عن تنفيذ أي مهمة كي لا يتعرض للملامة، والسبب هو عوزه للثقة في قدرته على تنفيذ المهمة المطلوبة بالشكل المأمول.
إن وجود موهبة الإبداع في أبنائنا أمر مرحب جدا به، ففي هذه الموهبة قدرة كامنة عالية على تقديم أفكار فريدة ومتميزة بالجدة والريادة، تحتاج إليها مسيرة التقدم والتنمية المستدامة. لكن ذلك غير كاف على أرض الواقع، فمثل هذه الموهبة تحتاج إلى اهتمام وتنمية، بل إلى تفعيل أيضا. ويتمثل ذلك في اكتشاف هذه الموهبة أولا، ثم تنميتها والتدريب على الارتقاء بها، إضافة إلى العمل على تفعيلها من أجل الوصول بصاحبها إلى النبوغ، والاستفادة نبوغه ومعطياته. وقد طرح هذا المقال صفتين إنسانيتين مهمتين لهذا التفعيل هما: الإدراك المرن، والعقلية النامية.
يقدم اكتساب الموهوب للإدراك المرن خصائص تساعد على طرح الأفكار، والتحرك بينها، والنظر إلى الأمور المطروحة عبر مناظير مختلفة توسع دائرة الرؤية إلى مشاهد الحياة في شتى المجالات. ويعطي استحواذ هذا الموهوب على العقلية النامية إقداما على مواجهة التحديات وإيجاد الأفكار الإبداعية اللازمة للتعامل معها، كما يعطي ثقة أيضا في السعي إلى تنفيذ متطلبات العمل، والعمل على التميز فيها.
إنشرها