Author

دكتور الغلابة مثالية طبيب

|
ضجت وسائل التواصل الاجتماعي قبل عيد الأضحى المبارك بخبر وفاة الطبيب المصري محمد مشالي، والملقب شعبيا بدكتور الغلابة. وأبدى المجتمع المصري وكثير من المجتمعات العربية حزنهم وأساهم على فقدانه، وأبنه كثيرون وأثنوا على سيرته وما قدم خلال حياته من تفان وإخلاص وتسخير عمره لعلاج المحتاجين والفقراء. كان رحمه الله لا يتقاضى إلا اليسير مقابل أتعابه، ولا يأخذ أي مقابل ممن سحقته تكاليف الحياة وأعناه العوز، بل كان يقدم لهم الدواء إن تمكن من ذلك. طبق في حياته مفهوم أن الطب رسالة وليست تجارة، وكان لا يرد سائلا ولا محتاجا. كان بسيطا في حياته، متواضعا في مظهره، زاهدا في الماديات، رافضا لعروض سخية لتجديد عيادته كعرفان بالجميل لما يقوم به من عمل. لم يبحث عن الشهرة والمجد والمركز والثروة بل حاول فقط مساعدة الفقراء. بذل وقته وماله وصحته وقصارى جهده في عمل الخير ساعيا لنيل رضا ربه وطامعا في دعاء مرضاه.
بدأ حياته العملية مع الرعاية الصحية العامة في المناطق الريفية، ثم بعدها بثمانية أعوام افتتح عيادته الخاصة منذ 45 عاما. حاول قدر استطاعته مساعدة المحتاجين والفقراء من خلال تقاضي مبلغ زهيد حدده في البداية بعشرة قروش للزيارة، ثم رفعه مع معدلات التضخم المتسارع حتى وصل قبل وفاته إلى عشرة جنيهات أو ما يزيد قليلا على ريالين. كان يعمل ساعات طويلة يوميا، ونادرا ما يأخذ إجازات، مداوما في ثلاث عيادات ومساعدا للمرضى في قرى مجاورة للمدينة. عمل كما تمنى حتى آخر يوم في حياته، وفي أيام الأعياد خوفا من أن يحتاج إليه فقير في ذلك اليوم ولا يجده. كان يقول إنه خلق للغلابة ولمساعدتهم والله سبحانه وتعالي يساعده على ذلك. جسدت حياته وأفعاله الرحمة والإنسانية بأسمى معانيها. اكتشف بعد تخرجه أن والده ضحى بتكاليف علاجه ليجعل منه طبيبا، فعاهد الله ألا يأخذ قرشا واحدا من فقير أو معدم.
لم يكن محبا للخير فقط بل كان طبيبا ماهرا ذا خبرة طويلة مخلصا في عمله، يقصده حتى الموسورون لبراعته في التشخيص والعلاج من دون تكلف. كان حلمه وحياته يتسمان بالبساطة، ولكن عمله كان عظيما وصعب المضاهاة محاولا قضاء حاجات الناس من دون تكلف ولا مباهاة ولا ضوضاء. كان من النوادر الذين يصعب أن تجد أمثالهم، ساعيا للمثالية ومقتربا من تحقيقها. لقد خرج من الدنيا من دون أعداء ومبغضين لأنه لم يكن لديه وقت للخصومات، بل كرس كل حياته في عمل الخير. ترك أثرا طيبا في نفوس الناس، لا تشتريه الأموال والمراكز والجاه فكل من عرفه أو سمع عنه يترحم عليه. لم يطلب الشهرة ولكنها أتت إليه رغما عنها، لم يذع خبرة إلا من فترة قريبة، ولكن سيظل ذكره لفترة طويلة من الزمن. وهذا فأل حسن بكثرة شهوده في الدنيا على فعل الخير.
كان يصف نفسه بأنه جندي مجهول يعمل بصمت ويرجو الثواب من الله. ومن سمو أخلاقه أنه كان يرفض فكرة تخصيص كشف مخفض للفقراء وكشف للمقتدرين الذين يقصدون عيادته لبراعته لأنه لا يريد أن يعمل بذمتين كما قال. إنه مثل من أمثلة الإيثار والرحمة والإنسانية وحب الفقراء والمساكين وخدمتهم وتقديم العون لهم. لقد كان نموذجا من النماذج الجميلة لأهل الخير في هذه الأمة الولادة التي لا تتوقف عن إنتاج العظماء والأساطير. لقد عاش حياة بسيطة من دون أضواء ولكنها مليئة بالإنجاز وفعل الخير ومساعدة المحتاجين. ولعل هناك تشابها كبيرا بين سيرته في التضحية وحب الخير وإفناء الحياة من أجل هدف سام وبساطة المعيشة، وسيرة أسطورة أخرى من أهل الخير فقدتها الأمة الإسلامية منذ عدة أعوام هو الدكتور الكويتي عبد الرحمن السميط.
النماذج البشرية الجميلة مثل الدكتور مشالي تشيع الأمل في الأمة وتحث على بذل العطاء والعمل الدؤوب ومساعدة الآخرين. كما أنها تثبت أن باستطاعة الفرد المساهمة بفاعلية في التصدي للتحديات العامة كالفقر والمرض والأمية والتضخم، خصوصا على المستويات المحلية. ويعد تكاثر النماذج الخيرية التي تتحرك وتسعى وتجتهد في خدمة ومساعدة الضعفاء من أحد عوامل تقدم الأمم واستقرارها. من الصعب أن يتحول كثيرون إلى أمثال الدكتورين مشالي والسميط ولكن باستطاعتهم القيام أو المساهمة بجزء من وقتهم وجهدهم بمبادرات الخير ومساعدة الضعفاء. المبادرات الخيرة قد تكون صغيرة في البداية أو شخصية وفي جميع المجالات، ولكنها كبيرة التأثير إذا كانت صادقة وكتب لها النمو والتوفيق، حيث تنشر الخير في المجتمع وتبعث الحماس في نفوس الآخرين للتنافس بمبادرات الخير المخففة لمعاناة وآلام المحتاجين. إن مبادرات ومشاريع الخير من قبل الأفراد والجماعات تنشر المحبة والتآخي والسلام بين أفراد المجتمع، وتخفف من الاحتقان الاجتماعي، وتفتح آفاقا ومجالات جيدة للآخرين ما يساعد على تقدم المجتمع ونموه.
اكتسب رحمه الله خلال عمله الدؤوب ومسيرته الطويلة تقنيات وخبرات طويلة في التصدي للأمراض، وخفض تكاليف الكشف والعلاج وأساليب التعامل مع المرضى. فقد كان ينزل إلى المرضى العاجزين على الأرض أو في الشارع ليكشف عليهم. إن مسيرته كنز غني بالمعلومات والمعرفة التي ينبغي أن تدرس ويستفاد منها في الرعاية الصحية العامة وفي مساعدة المرضى والفقراء.
إنشرها