Author

حرب باردة في محيط ساخن

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"تحاول الولايات المتحدة العثور على كبش فداء"
ليو شياو مينج، سفير الصين في بريطانيا

لم يهدأ توتر العلاقات الأمريكية - الصينية منذ أكثر من ثلاثة أعوام، حتى عندما تم التوقيع فعلا على الاتفاق التجاري المرحلي بين الطرفين أواخر العام الماضي. ومع تفشي وباء كورونا المستجد، أخذت هذه العلاقات أشكالا أكثر تطرفا من قبل الجانبين، ولا سيما في أعقاب تحميل الإدارة الأمريكية الصين مسؤولية هذا الوباء، وتحديدا اتهامها بإخفاء تفشيه عن العالم لمدة كانت كافية لتأمين مواجهة أفضل ضد هذا الفيروس القاتل. وبصرف النظر عن طبيعة هذا الاتهام، الذي حظي بتأييد بعض الدول الكبرى، فالعلاقات المتوترة بين بكين وواشنطن، لا ينقصها الوقود للتفاقم، كما لا تنقصها الاتهامات المتبادلة، التي بلغت حد السباب في بعض الأحيان، أو على الأقل، وصلت إلى مستويات غير دبلوماسية.
الخلافات التجارية المتوسعة بين أكبر اقتصادين في العالم، ليست هي السبب الوحيد في عدم عثور هاتين الدولتين على أرضية مشتركة لبناء علاقات طبيعية بينهما. بالطبع الاقتصاد يمثل حجر الزاوية في هذه الخلافات، إلا أن قضايا أخرى لا تقل محورية تسهم دائما في ضرب أي تقدم محتمل لهذه العلاقات. فالقضايا العالقة كثيرة، بما فيها مسألة هونج كونج الحساسة دوليا، وتايوان، وحقوق الإنسان في الصين، حتى اتهام واشنطن لبكين، بأنها لم تقم بدورها كما يجب في المحادثات التاريخية الفاشلة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية بشأن القدرات النووية لهذه الأخيرة. دون أن ننسى بالطبع جانبا حساسا جدا يرتبط بما تسميه إدارة الرئيس دونالد ترمب النشاط التجسسي الصيني على الأرض الأمريكية.
النقطة الأخيرة، أفرزت "كما شاهد العالم" خطوة دفعت بكثير من الجهات الدولية إلى وصف ما يجري بين هاتين الدولتين بأنه "حرب باردة". والمشكلة هنا تكمن في أن "هذه الحرب الباردة"، إن اتفقنا على هذا التوصيف، تجري في "مرحلة ساخنة" بفعل وباء عالمي خطير ضرب كل شيء تقريبا حول العالم. والتفاقم الأخير المتعلق باتهامات واشنطن لبكين بتوظيف كوادر في قنصليتها في الولايات المتحدة كـ "جواسيس"، ليس بسيطا، لسبب واحد فقط، وهو أن الاتهامات المتعلقة بالتجسس تبقى آثارها في الساحة لفترات طويلة، حتى بعد أن أقدم الطرفان على إغلاق القنصليات بصورة متبادلة. بالطبع لدى المسؤولين الصينيين تبريرات حاضرة في هذا المجال، تستند إلى اتهامها الإدارة الأمريكية بأنها تحتاج إلى إلقاء اللوم على جهة معينة، لأن ذلك ضروري في وقت الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، السفير الصيني في بريطانيا كان واضحا باتهامه واشنطن علنا بقوله "إنهم بحاجة إلى عدو".
وأيا كانت طبيعة الاتهامات بين هذين الطرفين المحورين دوليا، فـ "الحرب الباردة" بينهما أضافت بالتأكيد عبئا جديدا إلى الساحة الدولية، خصوصا فيما يتعلق بمواجهة "كورونا"، ناهيك عن الآثار الخطيرة للحرب التجارية الجارية بينهما منذ أعوام، على الاقتصاد العالمي، الذي يحتاج بالفعل إلى تعاون دولي شامل من أجل الخروج من هذه الأزمة. فخسائر هذا الاقتصاد تكفي للتركيز على كيفية تعويضها عبر حتمية التعافي السريع، علما بأن كل المؤشرات تدل على أن ذلك لن يتم في فترة زمنية قصيرة، فهذه الخسائر بلغت حتى الآن نحو 12 تريليون دولار، اقترضت الدول الكبرى وحدها المبلغ نفسه من أجل تفادي الانهيار الاقتصادي التام. وعندما تأتي حرب باردة في ظل حرب تجارية موجودة أصلا، ليس فقط بين واشنطن وبكين، بل بين عدد من الدول المؤثرة الأخرى، علينا أن ننظر بقلق شديد على مصير التعافي الاقتصادي العالمي المنشود عند الجميع.
بصرف النظر عن بعض التسريبات، التي تحدثت عن إمكانية قيام الرئيس ترمب لاحقا بقطع علاقات بلاده مع الصين، فالساحة متوترة جدا، وانعكس هذا التوتر على المسيرة الدولية للإنقاذ الصحيح والاقتصادي. فلا يمكن أن تمضي هذه المسيرة في ظل خلافات متنوعة تشمل كل شيء تقريبا، السياسة والاقتصاد والتجارة والحماية الفكرية وحقوق الإنسان، ومصير مستعمرات سابقة وغير ذلك. ويبدو واضحا، أن كلا الطرفين يتخذان مواقف متصلبة، ما يعطل كل الإمكانات (إن وجدت) لحل المشكلات بهدوء وبسرعة. لنترك جانبا تصريحات خجولة من بكين وواشنطن، بأنهما لا تريدان حربا باردة. فالصينيون لم يتوقفوا عن توجيه الاتهامات للإدارة الأمريكية بأنها تعيش عقلية "الحرب الباردة" ليس الآن، بل منذ وصولها إلى الحكم، بل يرى هؤلاء أن العداء الحالي لهم وصل إلى أسوأ مستوى له منذ الحرب الباردة التاريخية التي كانت سائدة قبل 1989.
كل المؤشرات تدل على أن تفاقم هذه الحرب سيمضي قدما، ما لم يتبع الطرفان دبلوماسية تأخذ في الحسبان ضرورة التعاون الدولي لمواجهة جائحة كورونا وآثارها الاقتصادية المدمرة في كل الدول. فهذه الجائحة وحدها ستجعل بنهاية العام الجاري 95 في المائة من اقتصادات العالم أصغر حجما مما كانت قبلها، وستكبل الدول بكميات هائلة من الديون لم تحدث حتى في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في 2008، ناهيك عن مخاطر نشوب نزاعات، يصعب إيقافها إذا ما اندلعت بالفعل هنا وهناك.
إنشرها