Author

هجرة العقول العربية .. جريمة اقتصادية

|

في العام الماضي قدرت تقارير منظمة العمل العربية أن الخسائر التي تتكبدها الدول العربية سنويا لا تقل عن 200 مليار دولار بسبب هجرة عقولها وكفاءاتها إلى الخارج. وتقترن هذه الأرقام بالخسائر الكبيرة الناجمة عن تكاليف تأهيل هذه العقول العربية وتكبد مصروفات تعليمها داخل أوطانها وبذل الغالي والنفيس لابتعاثها وتأهيلها. إلا أنه نتيجة لسوء التعامل مع هذه الكفاءات العربية لدى العودة إلى أوطانها، إضافة إلى محاربتها وحرمانها العمل في مجال تخصصها، دفعت هذه العقول إلى الهجرة قسرا إلى الدول التي تحسن استقبالها وتجيد معاملتها وتمنحها جنسياتها لتستفيد من علمها وقدراتها.
الدول العربية اليوم هي الخاسر الأكبر من هجرة كفاءاتها وعقول مواطنيها، وتتضاعف هذه الخسارة لتصبح أكثر خطورة نتيجة ازدياد عدد المهاجرين الأكفاء، الذين يحملون أفضل التخصـصات الاستراتيجية، مثل الذكاء الاصطناعي والطب النووي والجراحات الدقيقة والهندسة الإلكترونية والوراثية والعلاج بالإشعاع وعلوم الليزر والفيزياء والفضاء والميكروبيولوجيا، وهي التخصصات التي تشجع الدول المتقدمة على استقبالها والاستفادة من المتخصصين فيها.
المنظمة الدولية للهجرة أعلنت في العام الماضي أن إجمالي عدد المهاجرين من الأطباء والمهندسين والعلماء العرب إلى أوروبا وأمريكا وصل إلى نحو 24 ألف طبيب و17 ألف مهندس و75 ألف متخصص في العلوم الطبيعية، يمثلون في المتوسط نحو 23 في المائة من جملة هذه الفئات المهنية في الوطن العربي. وفي النصف الأخير من القرن الماضي هاجر 45 في المائة من حجم الكفاءات العربية إلى أمريكا وكندا وبريطانيا، وأصبح 50 في المائة من الأطباء و23 في المائة من المهندسين و15 في المائة من العلماء العرب خارج وطنهم العربي. واليوم تتمتع أمريكا بمساهمة أكثر من 15 ألف طبيب عربي في علاج مرضاها وسبعة آلاف مهندس عربي في زيادة عوائد مصانعها و4500 عالم عربي في الفيزياء والكيمياء والرياضيات لإثراء معاهد أبحاثها. كما أكدت المنظمة وجود أكثر من 200 مليون مهاجر حول العالم في الوقت الراهن، وجاءت أوروبا في المرتبة الأولى لتستقبل 71 مليون مهاجر، تلتها أمريكا في المرتبة الثانية بعدد 46 مليون مهاجر، وتبعتها آسيا التي استقبلت نحو 25 مليون مهاجر. وأفاد تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية في الوطن العربي، بأن أكثر من مليون عالم وخبير عربي من حملة الشهادات العليا أو الفنيين المهرة هاجروا إلى الغرب خلال نصف القرن الماضي، وأن 50 في المائة من الكفاءات العربية هجرت ديارها منذ الحرب العالمية الثانية، معظمهم حاصل على شهاداته في التخصصات الحرجة والاستراتيجية. وأوضح التقرير أن الإحصاءات تشير إلى أن 60 في المائة ممن تلقوا تعليمهم في أمريكا و50 في المائة ممن درسوا في أوروبا خلال العقود الثلاثة الماضية لم يعودوا إلى بلادهم العربية. ولا غرابة في ذلك حيث يراوح عدد العلماء والباحثين في الدول المتقدمة بين اثنين وخمسة لكل ألف نسمة، بينما لا يزيد في الدول النامية على واحد إلى ثلاثة لكل عشرة آلاف نسمة.
هجرة العقول العربية تعد الخسارة الكبرى في الوطن العربي، الذي يعد من أكثر المناطق أمية في العالم، بنسبة فاقت 49 في المائة، وهي الأعلى في العالم مقارنة بمعدل 30 في المائة في الدول النامية و1.4 في المائة في الدول المتقدمة. هذه النسب تدل على وجود أكثر من 70 مليون أمي في الوطن العربي ليصبح هذا الرقم أحد أهم المعوقات الرئيسة أمام التنمية العربية في عصر تمثل فيه الكفاءات العلمية والتقنية والمعرفة المصدر الرئيس للميزة النسبية وأساس التفوق والتنافس بين الأمم.
من الواضح أن هدف الدول الغربية يصب في فتح باب الهجرة إليها للعقول العربية، لكونها تتمتع بمهارات عالية موؤودة في العالم العربي، ليصبحوا مصدرا مهما للاقتصاد القومي في الدول الغربية الذي تحكمه تقنيات المعلوماتية وقوانين المعرفة ومبادئ العولمة، وليلعبوا دورا مهما في هيمنة الدول المتقدمة على دول العالم الثالث في مجالات العلوم والهندسة والتقنية والطب.
ولعل أهم أسباب نزيف العقول العربية في عصرنا الحالي تنحصر في عدم تقدير هذه العقول في أوطانها، والرواتب الهزيلة التي يحصلون عليها لقاء مجهوداتهم، وعدم الاهتمام بالبحث العلمي في الوطن العربي، وتوزيع هذه العقول على تخصصات لا تتوافق وقدراتهم، مع الاعتماد الكبير على الخبرات الأجنبية الوافدة من الخارج وتفضيلها على الوطنية.
لذا على الدول العربية، التي ترغب جديا في جذب علمائها وترغيب مهندسيها والعناية بأطبائها بدلا من تهجيرهم، أن تبدأ فورا باتخاذ الخطوات الاستراتيجية التالية:
أولا: توفير البيئة المناسبة للبحث العـلمي والإبداع والابتكار لعلمائها، إضافة إلى صيانة حقوقهم الفكرية وبراءات اختراعاتهم وتوفير فـرص العمل لتخصـصاتهم النوعية.
ثانيا: المشاركة الفعـالة للقـطاع الخاص في تمويل الأنشطة العلمية والبحوث العملية، وتيسير التـواصل بين قطاع البحث العلمي والمـنشآت الصناعية، من خلال توطيد العلاقات بين الجامعات ومراكز البحث من جهة، والقطاع الخاص من جهة أخرى سعيا وراء حل وتطويع التقنيات المحددة.
ثالثا: مضاعفة الإنفاق العربي على البحث العـلمي بمقدار 15 ضعفا عن المعدل ‏‏الحالي، لتطوير السياسات المشجعة على البحث العلمي في قطاعات المجتمع كافة، مع تفعيل الاستفادة من الأعمال البحثية في تحسين مساهمة المشاريع الصغيرة والمتوسطة في النمو الاقتصادي المحلي.
رابعا: إنشاء قاعدة علمية قوية تتبنى استراتيجيات لتطوير البنية التحتية لمؤسسات البحث العـلمي، من خلال زيادة الدعم المالي المخصص لمؤسسات البحث العلمي، وتقديم المـنح السخية لبرامج البحث العلمي والتطوير. وهذا يؤدي إلى تسهيل التواصل بين الباحثين والمنشآت الصناعية، ومنح الصلاحيات التي تمكن الباحثين من الاستفادة المباشرة من أعمال وبرامج المنشآت الصناعية.
خامسا: ضرورة استقلال الجامعات والمؤسسات البحثية من نفوذ الإدارة الموحدة، لإعطاء الحرية الكاملة لهذه المؤسسات والجامعات في رسم سياساتها وبرامجها، وتعيين مـن يستحق في سلمها الوظيفي ضمن بيئة تنافسية عالمية مستقرة.
علينا أن نعترف بأن عالمنا العربي، أو ما تبقى منه، ما زال يعاني تراجع نموه الاقتصادي وتخلف قدراته الصناعية وضعف صادراته العالمية، لكونه البيئة الطاردة لعقوله المهاجرة، وهذه جريمة اقتصادية واجتماعية تجب معالجتها قبل فوات الأوان.

إنشرها